مِهاجرين
قصص قصيرة من أدب المهجر
شريف مليكة
مقدمة
مصري مهاجر الى بلاد العم سام .. يحمل في قلبه مصريته التي لا تفارقه لحظة .. يدور في جنبات الحياة ينظر ويبصر ويعي .. يحمل فوق كتفه "كاميرا" يلتقت بها صورة من هنا وهناك .. صور أبيض وأسود , وصور ملونة , حسب المزاج .. صور لي ولكم وسط الحياة , بحسب عند أي ناحية من العدسة أكون أنا , وعند أي ناحية تكونوا .. وفي النهاية, أطرح صورًا على صفحات , ننظر إليها معًا , ومعًا نبصر شيئـًا من أنفسنا..
شريف مليكة
إهداء
الى زوجتي وأولادي .. وكل الذين أحبوني كثيرًا ..
وترفقوا بي كثيرًا .. فعلموني الكثير ..
والى الذين لم يحبونني, ولم يترفقوا بي .. لأنهم ـ بجفائهم ـ علموني أكثر ..
" واشتبك فى أحاديث صامتة لا نهاية لها مع ماضيه .. ولاحت له حارته مثل جوهرة غارقة فى الوحل . إنه الآن يحبها حتى بسوءاتها !. ولكن ثمة فكرة تتسلل إليه خلال عباداته المتواصلة بأن الإنسان يستحق ما يعانيه !. الوجهاء والحرافيش ودرويش يدورون حول محور منحرف يرغب حقيقة فى القبض على سره الماكر العسير . وهاهو الله يعاقبهم جميعًا كأنما قد ضاق بهم !. ورغم ذلك يثمل الفجر بغبطته الوردية , ويرقص شعاع الضياء فى مرح أبدى !. إنه على وشك أن يسمع أصواتا , ويرى أشباحا , إنه يتمخض عن ميلاد جديد . "
نجيب محفوظ
"الحرافيش"
الفهرس
دعوة قدرية
ِمهاجرين
جزمه شامواه
الفولية وآل عمران
أشياء الحياة الصغيرة
غُربة
فى غضون الليل
الحِجَارة السبعة
خطابات الكترونية
شنب الأستاذ عبد السيَِّد
سامى كوهين
سميحة هانم حرب
دعوة قدرية
لم يكن للأستاذ "عادل مظلوم" أدنى فكرة عما وراء الرسالة التى حملها اليه ساعى البريد فى هذا الصباح الغريب . كان قد استيقظ كعادته فى الثامنة وانتهى من معالجة آثار النوم المتقلب فى أقل من نصف الساعة , وتناول كوب الشاى باللبن التى أعددته له زوجته بتذمرها المعتاد لقرب نفاذ مخزون الشاي أو السكر أو إرتفاع سعر اللبن , أو أى شئ آخر من هذا القبيل.. وقبـَّل جبين أبنائه مودعًا إياهم قبل أن ينطلقوا الى مدرستهم .. تمامًا كما يفعل به كلُ صباح يمر بحياته العادية .. وبينما كان يعقص آخر زرار فى قميصه المشتكى من كثرة الغسيل والكى , سمع خبطًا على الباب وصوت زوجته يصرخ من ناحية المطبخ " مين؟ " ورد خافت من وراء الباب المغلق " بوسطه " ..
. . .
كانت تلك أول مرة , منذ تلغراف إعلامه بوفاة أبيه قبل خمس سنوات , يدق فيها ساعى البريد بابه , فتوجس شرًا .. ولكنه لم يجعل ذلك يدهشه أو يعكر من مزاجه , إذ أنه كان قد إعتاد أن يحتفظ بمزاجه ثابتًا على وتيرة واحدة , لا يعلو أو يهبط مؤشره مهما يجابه من حصاد الأيام .. فإتجه ببرود ناحية الباب , وفتحه ومد يده بحركة روتينية موقعًا على ورقة الإعلام بالإستلام , وكأنه يمارس عمل يومى معتاد , وشكر الرجل بهدوء وأغلق الباب .. وقلب البرقية بين يديه ولاحظ الحروف الأجنبية عليها , ثم أدرك أنها مرسلة إليه "شخصية" من القنصل الأمريكى بالقاهرة .. وجلس "عادل مظلوم" على الأريكة المقابلة لباب الشقة وقد قطب جبينه وشرع يفتح الرسالة , حين جاءته زوجته من المطبخ مجففة يديها فى قماش فستانها قائلة " خير يا عادل " .. وهنا قرأ بصوت متأنى " الأستاذ عادل مظلوم .. انتم مدعوون لمقابلة القنصل الأمريكى يوم الإثنين القادم فى تمام الساعة التاسعة صباحًا وذلك لمناقشة أمر هام " ..
. . .
لم تكن قدماه قد حملتاه جنوب ميدان التحرير من قبل هذا الصباح الدافئ من شهر مارس . وكان قد غادر لتوه الأتوبيس المكتظ بركابه فتوالت أنفاسه منطلقة بحرية , معوضة إنحباسها وقت الحشر الكئيب لمدة أربعين دقيقة طوال الرحلة مابين عزبة الورد والميدان الشهير .. ومر إزاء مبنى " مجمع التحرير" و" جامع عمر مكرم " ودلف الى ميدان " سيمون دى بوليفار" يتوسطه تمثاله الشهير , وبعد خطوات قليلة أستوقفه حارس الأمن عند مدخل السفارة الأمريكية , فأظهر البرقية وبطاقة تحقيق الشخصية , فأشير له بالدخول وجلس فوق أقرب مقعد لاقاه .. وجلس صامتًا متفكرًا عما يكون وراء كل هذا .. ولكن لم يكن بشىء قادر أن يعكر من صفوه إذ أنه قد أبَى الإنفعال منذ زمن طويل .. وأدرك لحظتها أن دافعه الوحيد للمجئ كان الفضول , لا أكثر أوأقل .. وجعل يتأمل الموظفين من حوله يتماوجون فى صمت خلف زجاج الحائط المنصِّف لصالة الإستقبال , بينهم وبين الزائرين الحاجِّين دومًا للسفارة الأمريكية , المحتضنين لأوراقهم وحقائبهم , فى إنتظار قدوم الفرج .. على عكسه تمامًا , فهو لم يكن ينتظر شيئا ً مطلقا.ً.
. . .
جاءت السكرتيرة الحسناء - بعد وهلة , مؤذنة له بالدخول , فقام وولى بظهره الى القاعة المكتظة , وفتحت له بباب جانبى والعيون ترمقه بإستطلاع , وأغلقت الباب وراءهم .. مضيا صامتين فى ممر طويل متوسط الإضاءة , الى أن بلغا باب آخر فى نهاية الردهة , مَرَقاه سويًا الى قاعة متوسطة الحجم , باردة المعالم , أشارت له أن يجلس بكرسى بها , ثم عبرته الى باب آخر فى الناحية المقابلة من الغرفة وغابت عنه ..
. . .
سادت لحظات من الصمت المفعم بالترقب, وسرت فى روحه برودة المكان .. سحب مجلة أمامه وقلب صفحاتها دون أن يبصر أى منها, وإجتنبه حينئذ شعور بالغربة لم يستطع أن يحدد أبعاده .. وتساءل لأول مرة ماذا هو بفاعل فى هذا المكان وفى تلك اللحظة بالذات؟ لكن لم تتضح له أى إجابة منطقية .. فهو لم يسعى يومًا للسفر , بل ولم يخطر قبلا بحى السفارات .. كما لم يسبق له أن تتطلع الى مشروع هجرة , ولو داخليَّة , لأنه كان قد تعاهد مع نفسه- منذ زمن- ألا يقيِّم أحداث يومه , تجنبًا للإحباط , وألا يسعى لإنتقاء غده , مراوغة للفشل..
. . .
"عادل مظلوم" ناداه صوت رجل غير مألوف لديه , بغتة, "إتفضَّل".. وجلس "عادل مظلوم" على الكرسى الأيمن المواجه للمكتب الممتد , المغطى بزجاج سميك , الذى ترَأسَه رجل متوسط العمر, ذو بشرة سـَرَق إحمرارُها كل إنتباهه , يحيط بها شعر بلون جديد عليه, لون يشبه طبق العسل الأسود بالطحينة- الذى كانت زوجته تعده له فى أيام الرضا- عيناه وفمه مبتسمتان بثقة العالم ببواطن الأمور, محتضَن فى الخلفية بالعلم الأمريكى المذهب السارى .. ثم لمح على الناحيةالأخرى منه شاب يبدو مصريًا منمقًا ـ كشأن خريجى الجامعة الأمريكية بالقاهرة , علم بعدها أنه مترجم للقنصل , وعلى المنضدة الصغيرة التى تفصل بينهما , رقد ملف أنيق معنوَن بإسم "عادل مظلوم" , كما لمح ملف شبيه أمام القنصل .. وبدأ الحديث وهو ينتقل بعينيه بين الرجلين , وبين العلم والحائط الكستنائى المزيَّن بنسر ذهبى يتوسطه , وكأنه يهيمن فوق المجلس مستعد للإنقضاض عليه عند اللزوم ..
" هل لديك أى علم عن سبب دعوتنا لك؟ " هكذا بدأ القنصل المقابلة .. فأدار بوجهه ناحية الشاب المصرى ملتمسًا مساعدة تستأتى بالإجابة الصحيحة , ثم تذكر حاله فإبتسم مطمئنًا وقال:
"كلا"..
" لقد وقع إختيارنا , من بين آلاف الحالات المعروضة , عليك أنت , للسفر للعلاج بأمريكا " قالها القنصل بلهجة مبشِّرة وحاسمة .. فقهقه هو ضاحكـًا مدركـًا الخطأ الذى أدى به الى كل تلك الحيرة منذ إستلامه للبرقية .. ولكن عيونهما الجادة الواثقة أستوقفته , فإستعاد جأشه وقال:
" أرى أن فى الأمر لبسًا , فأنا فى الواقع لا أشكو مرضًا كما أنى لم أزر طبيبًا منذ طفولتى, أكيد تشابه فى الأسماء".. وهم بالقيام متنفسًا الصعداء , فقد أضحى فجأة كل شىء جليًّا أمامه .. وهنا أشار إليه القنصل بالإنتظار , ثم قام ودار حول المكتب ممسكًا بملفه - أو كما بدا لهم أن يكون هو - ثم بسط يده نحوه وأومأ داعيًا إياه بإلتقاط الملف الموضوع أمامه وقال:
"هل تخصك هذه المعلومات؟ أم أنه تشابه أسماء كما تقول, وهل يتبادر الى ذهنك أن نقع نحن فى مثل هذا الخطأ الساذج؟" .. وضغط بتباهى واضح وهو يقول "نحن" .. فقلب "عادل" ببطئ بين صفحات الملف ودُهش من كم المعلومات ودقتها, ثم وضعه على المنضدة وإستسلم لمقدرات الأمور..
" بمجرد موافقتك المكتوبة سنتمم الإجراءات وتسافر فى خلال أيام قليلة" ..
" ولكننى فعلا لا أشكو شيئًا" ..
" هناك فرق بين عدم الشكوى لإنعدام الأمل فى التغيير, والرضاء بالحال فى كل الأحوال , والصحة الحقيقية المطلقة " ..
" كيف هذا؟" ..
" ألا تقولون بأن الشكوى لغير الله مذلة؟ ثم أفصِح, متى إمتنعت أنت شخصيًا عن الشكوى, حتى لنفسك؟" ..
" يا سيدي ماذا أشكو .. أنا لا أشكو .. وماذا تفيد الشكوى .. ( ويصمت عادل برهة).. ولكن ما حيلتى وأنا غير قادر على تصحيح ما أشكوه؟"..
" هذه كانت بدايتك مع المرض, يوم قررت الإمتناع عن الشكوى والكلام أولا, ثم عزفت عن الفعل وبالتالي التفاعل, حينئذ بدأت حواسك فى الضمور تباعًا, فوصل حالك الى هذه المرحلة المتدنية, التى إستوجبت سفرك للعلاج فى الخارج"..
" هذا هراء لأن حواسى كلها سليمة والحمد لله"..
" هذا ما تعتقده أنت , وبكل الأسف هذا ما يقوله عامة المرضى فى مثل حالتك , والأسهل لنا طبعًا أن نتجنب التعامل معكم , ولكن دوافعنا الإنسانية , بل ومصلحتنا تمنعنا , وإلا فقل لى عن جدوى المشقة فى البحث عنك وعن أمثالك لتقديم العلاج؟" .. قالها القنصل بغطرسة الواثق.. ولكنه إستثار فضوله..
" أتعنى أنى لست الحالة الوحيدة؟"..
" ولن تكون الأخيرة, بكل أسف"..
" وكيف صارت حالة الآخرين؟ وهل لى أن أتقابل مع حالات تم لديها الشفاء؟" ..
" ستتقابل معهم هناك بعد علاجك"..
" لازلت مُصِرًا أنى لا أعانى سوى من إحباط مزمن"..
" ما عليك؟ ماذا ستخسر إذا أنت سافرت للعلاج ولم تشعر بتحسن؟ على أى حال أنت لا تشعر بمرض يعتريك الآن, فستعود إذن لحالتك الأولى بعد أن تكون سافرت للفسحة كام يوم"..
" منطقى"..
" إمضاءك هنا من فضلك"...
. . .
وقف الأستاذ "عادل مظلوم" فى طابور طويل لبشر قادمين من كل بلد وكل جنس ولون, متأملا المكان من حوله , ولمَّا لم يستطع التعرف عمّا يميزه عن باقى الأماكن , بقى مستسلمًا لصمته ..
ثم جاء دوره عند القفص الزجاجى حيث رجل جالس يرتدى معطفًأ أبيض , حسبه لأول وهلة القنصل الأمريكى بالقاهرة - لشدة التشابه بينهما - فأدرك أن بداية العلاج المزعوم قد تكون وشيكة ..
سلمه الأوراق , وتقدم الى داخل الغرفة الزجاجية , وأُغلق الباب وراءه تلقائيًا.. وإذا بفتحة غير ملحوظة فى السقف تضخ مادة غريبة نحوه , أو تبدَّى له أنها تُضَخ, لأنه لم يتأكد فعلا من أنه أبصر بشيء غير المعتاد .. ولكنه شعر أولا بدمع ينهمر, حسبه حزن على فراق الأهل والوطن , ثم مالبث أن جف الدمع , ليجد بصره وقد أصابته درجة لم يعتادها من الحدة والتمييز .. وحتى أذنه ميَّزت همس النظام والهدوء من حوله , وإزدرت الصياح والضوضاء .. وشعر تدريجيًا بتحسن واضح ..
وتساءل"عادل مظلوم" فى نفسه يومًا , لماذا لا تستورد "مصر" هذه المادة الساحرة , وتجنب أبناءها مشقة السفر للعلاج فى الخارج؟
مهاجرين
ـ1ـ
ضغط زرار المصعد الى الدور الثانى والعشرين, فانزلق الباب بصمت وتؤدة, وحجب رويدًا ضجيج البهو الفسيح, وانفصل تدريجيًا عن العالم المألوف.. نظر حوله الى الواقفين فى المصعد وتساءل عما إذا كانوا كلهم قد جاءوا من أجل الإعلان, ولكنه على الفور استنكر هذه الفكرة.. وتزاحمت فى أنفه رائحة العطر الياسمينى اللذيذ المتدفق من امرأة واقفة أمامه, ومزيج من عرق قديم معطـَّن, وبقايا ثوم, تنبعث من ناحية رجل أشقر فى منتصف العمر, متَّسخ الأوفر ول ومسوَّد الأظافر.. تقبض يده اليسرى القوية بصندوق معدني, بينما تعبث أصابع يده اليمنى بشعيرات نابتة فوق ذقنه المدبب, وكان يقف غير مكترث بقذارته على الناحية الأخرى منه.. لا يمكن أن تكون له أى علاقة بالإعلان..
ذلك الخبر الصغير المحاط ببرواز سميك في الصفحة الثالثة أو الخامسة من جريدة الأحد الماضى, "هل كان تسعة أم ثمانية سبتمبر؟ النهارده الثلاثاء حداشر, يبقى كان تسعة .. أيوه تسعة لأنه وافق الذكرى الأولى لإستعادة حريتى بعد طلاقى من تلك المرأة اللعينة".. نعم كان زواجى الثانى, ولكن الأول كان أيضا ملئ بالعواصف ولم يستمر سوى بضعة أعوام.. لا أعرف سر هؤلاء النساء يلـُحن فأفقد عقلى متيمًا, ويبقين فأفقده جنونًا!
شدَّه الإعلان شدًا يومها حتى أنه نحَّى بكوب القهوة بسرعة جعلتها ترتج وانسكبت منها رشفة أو اثنتين.. أخيرًا مَخرَج من هذا الملل اللعين.. "..الى الجادين فى الاهتمام التوجه فى تمام الساعة التاسعة صباحا.." وهل هناك من هو أكثر جدية أو اهتمام منى؟
ونظر ثانية نحو المرأة الياسمينية, بشعرها الذهبى المصبوغ من أسبوعين ـ حيث تبدَّت جذوره السوداء الفاضحة ـ وتزحلقت عيناه الى بشرتها البيضاء اللامعة المشدودة, المطلية بمهارة برتوش تجميلية محترفة, طمست جرائم الزمن وأضاءت حَسَناته فشع جمالا.. وعيناها ساهمة مرشوقة أمامها فى قلب لا شيء, ولا تتحول عنه أو ترمش وكأنها تمثال من الشمع.. وهالهُ لون عينيها الذى هو مزيج من الأزرق والأخضر, متباين مع البياض المشبَّع بحمرة خفيفة المحيط به مما جعله يدقق حتى رأى محيط العدسات اللاصقة.. وتبين له تناسق لون عينيها مع لون البلوزة تحت التايير الكحلى الذى كانت ترتديه, والذى زينته ببروش ذهبى على شكل زهرة مطعـَّم بقطع من العقيق ربطتها بحمرة الشفتين المنفرجتين قليلا, الملقيتين بتكاسل فوق وجهها السارح المتأمل فى اللاشئ..
تـَفكـَّر فى أنها حتما جاءت بسبب الإعلان, ولاشك فى هذا عندى ـ إمرأة فى أواخر الأربعين أو أوائل الخمسين, مُعتنية بمظهرها, وجميلة الى حد بعيد, شخص مناسب ليأتى فى هذا اليوم الخريفى بحثا عن فرصة العمر.. تماما مثله هو, وقد نزع عنه كل كآبته الماضية, وإحساسه الدائم باللامبالاة, وذاك الشعور بالعدم الذى اعتراه طيلة الشهور الستة المنصرمة حتى يوم قرأ هذا الإعلان العجيب: ".. فرصة العمر.. سنبدأ فى إجراء المقابلات الشخصية, وتتبعها فحوصات طبية للفائزين.." هذا يعنى أنه هناك أمل, حيث انه لم يفشل فى أداء أية مقابلة شخصية للحصول على وظيفة منذ أن وطئت قدماه أرض هذا البلد العجيب..
كان ظهره مسنودًا بجدار المصعد الأيمن, والمرأة الياسمينية المتأنقة واقفة أمام الجدار الخلفى على بعد بضعة بوصات منه مما أتاح له أن يدرسها بعناية فى الثوانى القليلة التى إلتقيا فيها منذ قطع باب المصعد علاقتهما بالعالم الخارجى, مصدر عنائه الأزلى.. أما هى فلم تلتفت إليه قط, وكأنه غير موجود, أو كأنها هى غير موجودة, هائمة فى عالمها وحدها ولا تجد ما يجمعها بعالمه.. أما عن جانبه الأيمن, فيقبع الرجل القذر الذى تفوح منه رائحة الكد الرخيص المُوحى بقحط الإمكانيات.. وألقََىَ عليه بنظرة خاطفة, فلمح وجهه الأشعث وشَعره المنكوش وعينيه الزرقاويتين الخاويتين, وابتسامة ساذجة ارتسمت فوقه وكأنها الراية البيضاء تعلن استسلامه الكامل فى معركة الحياة, وإعلان صريح عن عجزه المطلق.. وأشاح بوجهه بعيدًا بعد أن زكمت أنفه رائحته الفواحة.. وفيما عدا هذا الرجل وهذه المرأة, إمتلأ المصعد عن آخره برجال ونساء شفافين لا لون لهم ولا رائحة وكأنهم أشباح أو أشباه آدميين, إمتلأ بهم المكان ولكنه كالخالى منهم تمامًا, وتَعجب هو من هذا الشعور الذى إعتراه..
وتذكـَّر أيام الكلية فى القاهرة, وأتوبيس 13الكيت كات, وتزاحم الخلق, ورائحة العرق والتراب الممزوجة بالفقر والبصل والجبن القديم المنبعثة من الناس.. عجيبة هى تلك الذكريات العالقة بدهاليز الوجود, ولا تلبث أن تثب الى حيـِّز الواقع فجأة وبلا مقدمات وكأنها لم تكن قد ولـَّت ومعها زمانها.. ولكن ماذا أقول؟ هى كذلك, لأنها الحقيقة بعينها, وكما أن الشمس تشرق اليوم وتنشر ضياءها فوق كل الأشياء وكل الحقائق, وتعلنها لنا, فهذا لا يعنى أنها لم تشرق كذلك فى يوم مضى ـ منذ عام أو دهرـ وأضاءت بأشعتها حقائقه وأشياءه أيضا فخلـَّدتها وجعلـَـتها مضيئة أبدًا.. وإن غابت عنا فلأننا نولى بأنظارنا بعيدًا..
ـ2ـ
فى ظلام الغرفة الدامس, تحول وميض المنبه الأخضر الخافت الى مصابيح نيون تضيء جنبات ليلتها.. وتستلقى هى على ظهرها, وعيناها المنهكة تحملق بالسقف والجدران البيضاء المكسوة بخمار أخضر مستمَد من وهج الأرقام الإلكترونية بجانبها.. وتلقى إليها بنظرة جديدة.. أربعة وعشرة.. وتسترق السمع لدقات الساعة الخافتة الرتيبة, الآتية من البهو الخارجى, المتسللة من تحت باب غرفتها, لتعلْمها بمرور الزمن بها, بينما هى قابعة وحدها على فراشها الوثير تنتظر ـ بلا أمل فى نوم ـ أول شعاع نور يتسلل من جنبات ستائر نافذتها الوحيدة, معلنًا انتهاء مدة حبسها الإنفرادى..
هكذا كانت تمضى معظم لياليها, وحيدة ومستسلمة لرحلة الانتظار, لبزوغ الفجر الذى يشيع بها الإطمئنان بأنها ما تزال على قيد الحياة..
أجل كان النوم عندها موتًا عابرًا, تهاب أن يستقر عندها, فلا يبرحها, ولا تلوذ بغيره وجودًا.. كانت دومًا تدرك أن بينها وبين الموت عشقًا آثمًا, لو إلتقته يومًا, ستذوب فيه وهو فيها, ولا ترجو منه الفكاك.. لذا فقد آثرت أن تنتظر الصباح المبشر بقدوم مدبرة منزلها, منقذتها من غياهب الموت والوحدة, فتنزلق هى الى بحور الغفو, عند سماعها انغلاق باب المنزل الخارجى..
ولكنها, فى تلك الليلة, تدرك أنها لن تنعم حتى بتلك الراحة المختلسة من عالم الخوف الرابض فوق صدرها.. وذلك بسبب تلك المقابلة المنتظرة فى التاسعة صباحًا, التى ستحرمها حتى من غفوة الصباح تلك.. حسنًا, قالت لنفسها, وماذا لو لم أنم, فهل يزداد الألم, وبحركة لا شعورية, مرت بكفها تتحسس برفق بطنها وفخذيها وتمسحها بأناملها وكأنها تجفف أدمعها المنهمرة منذ زواجها الأول للأردنى عندما كانت بعد صبية فى السادسة عشرة.. لم يكف جسدها عن البكاء منذ العدوان الأول, الذى تبعه الثانى والثالث, حتى صار كل اقتراب منها عدوانًا واغتصابا.. وكأنها حملت فلسطينيتها فى جسدها وصارت هى فلسطين.. وصارت فلسطين هى.. وغاب الكهل عن دنياها, وجاء الشاب والشيخ, وتلاهم آخرون.. دبابير كثيرة تنجذب لحلاوة رحيقها, فتمتصه وتذوب عشقًا حتى يعتصرهم الهيام فيتساقطون عنها الواحد تلو الآخر.. وتزداد هى جمالا ونضجًا وثراءً, ويفوق مذاق رحيقها كل رحيق, ويشتاق للارتواء منه كل قلب.. وملت هى الدبابير والعاشقين.. وزهدت فى الثراء والجمال.. وتمنت لو استبدلتهم كلهم بليلة واحدة تنامها ملئ جفنيها..
كانت واقفة فى المصعد سارحة تطوف بكل تلك الأفكار, فلم تسعى حتى لتعرف صاحب الإصبع
الذى سبقها الى زرار الدور الثانى والعشرين, حيث المَخرج الحتمى من تلك الزنزانة الذهبية التى أحاطت بها جدرانها, بل وأطبقت عليها, حتى لم تعد بقادرة على الاستمرار, الى أن لقيت ذلك الإعلان العجيب الذى أدركت أنه حتمًا سوف يغيـِّر حياتها الى الأبد.. ".. ولضمان الجدية, نرجو إحضار شيك مصرفى بألف دولار لإسم الهيئة الدولية لأبحاث الفضاء.." ومدت بأناملها تنقر بخفة ـ نقرات رقيقة ومتتابعة ـ فوق حقيبة يدها.. "وهل هناك شك فى جديتى؟"..
ـ3ـ
أقسم أن هؤلاء الملاعين من أصل شرق أوسطى.. أجل أنا أعرفهم, منذ أن ذهبت الى مصر برفقة أبى فى الستينات.. تلك كانت الأيام, وتلك كانت الحياة.. كنا نحن الخبراء, والعالمين, والمانحين, كنا الأقوياء.. وكان هؤلاء السُمر الملاعين ينظرون إلينا بوجوهنا البضة الحمراء بكل إكبار.. ويتودد لنا صغارهم لنتنازل نحن الأطفال السوفييت ونرضى باللعب معهم..
أين ولـَّت تلك المشاعر المتكبرة, أيام كنت أشعر بالفخر, بل وأسعى لأن يسألنى أحدهم من أين أنا لأقول بزهو أنا روسى سوفييتى بلد لينين والكرملين والسام والكليشينكوف والفودكا والبولشوى.. الكل راح.. الكل مضى وذهب بعيدًا الى غير رجعة.. ولم يبق سواى والفودكا والبولشوى.. وغاب أبى مع الخبراء السوفييت عن الساحة.. وهوَى البيت المبنى فوق الرمال, وهام سكانه على وجه الأرض يطلبون ما يسد رمقهم, حتى رست سفينة "أولجا" ـ أختى الصغرى ـ إبنة الخبير السوفييتى الحُمر شدقيه, الى شواطئ نفس الميناء الذى ساهم هو فى بنائه, إلا أنها ـ ويا للعار ـ ترقص بحاناته لينتشى بها بحارته..
بل وجئتُ أنا الى بلاد الأعداء ـ أو من قالوا لنا قبلا أنهم هكذا, ونحن بعد أطفال نصدقهم ونؤَمـِّن على تعاليمهم بأنهم كانوا كذلك ـ لأطلب خبزًا ومسكنًا وغدًا واعدًا لأولادى.. هل تلك أضحوكة القدر أم أنها نهاية العالم؟..
هاأنذا أحمل عدتى وأتجه الى الدور الثانى والعشرين, لإصلاح رشح بالسقف يبدو أنه قادم من ممر جهاز التبريد, كما قال رئيسى البولندى المتعجرف, لعنة الله عليه وعلى أبناءه.. ألن يدرك يوما هذا الخنزيرأننى حاصل على بكالوريا و دراسات عليا فى الرياضيات؟ ولكن ماذا يفيد ذلك الآن إذا كانت تلك قد صارت معلومات قديمة, بالية, أقصى ما يمكن الاستفادة منها تكون فى عملى كمساعد مدرس رياضيات.. وحيث أننى غير مؤهل لغويًا للتدريس حتى لجرو أمريكى, يجب علىَّ إذن أن أطيع بل وأقبل مقعدة هذا البولندى القذر حتى تتبدل الظروف..
ولكن ماذا جاء بهذا الرجل الشرقى اليوم الى هذا المكان بالذات؟ ولمَ كل هذا التأنق الزائد, ورائحة الكولونيا الفوَّاحة, والبدلة الرمادية التى يساوى ثمنها معاش عائلة كاملة فى روسيا, ولمدة ستة شهور؟ ولماذا الدور الثانى والعشرون بالذات, وكان قد ضغط بزراره قبل أن تمتد له يدى.. هل يكون يعمل هو أيضًا فى مجال الفضاء ـ كما يوحى اسم الهيئة ـ لا أظن.. فهيهات بين هذا التأنق وبين الغور فى بحور العلم.. وماباله يبحلق هكذا فى هذه السيدة المتصابية الواقفة أمامه, وهى تشخص الى المجهول, ولا تبالى بمن حولها.. ما لى ولهم؟ فليذهبوا جميعًا للجحيم..
ثم ماذا حل بى أنا شخصيًا ولِم كل هذا الإهتمام؟ يقولون هنا, أن الشيطان فى التفاصيل.. وهناك.. هناك لم يكن للشيطان وجود.. ولا الله.. أوالدين.. أو الكنيسة.. ولاؤنا وإيماننا بالحزب.. وشيطاننا هو الكى جى بى.. ولا توجد تفاصيل.. فالكل واحد وواحد هو الكل.. حتى أفلام الكرتون عندنا مغلفة بالشمولية فالأرنب فيها إسمه "أرنب" والثعلب "ثعلب" .. لا أسماء لها ولا خصوصية.. هل تأمركتُ أنا أيضا كما تأمرَك أولادى المولعين بـ "سيمسون فاميلى" ويعرفونهم وكأنهم من بقية عائلتنا؟
كل ما أرجوه الآن هو أن أنتهى من إصلاح العطب بأسرع وقت ممكن, حتى أستطيع أن أسرق ساعة أو ساعتين مع "إيفا" زوجة البولندى الحقير ـ التى تنتظرنى فى بيتها ببروكلين وحتى الساعة الثالثة والنصف, موعد رجوع الأبناء من المدارس.. وأطلق إبتسامة بلهاء فوق شفتيه متفكراً فى آخر لقاء بينهما..
ـ4-
"دينج.. دونج" وتوقف المصعد وإنسحبت ضلفتاه بفحيح مكتوم وكأنه شهيق أنفاس محبوسة طيلة مدة الرحلة الى الدور الثانى والعشرين.. ودلف ثلاثتهم خارجين وإتجهوا جميعًا الى اليسار, ثم تبعوا السهم المشير يمينًا الى " الهيئة الدولية لأبحاث الفضاء" .. والعجيب أنه بالرغم من مسيرتهم جنبًا الى جنب, وكأنهم كتيبة عسكرية, الا أن أحدهم لم يعر الآخرَين إلتفاتـًا.. ومضوا صامتين كأنهم مشيعين فى جنازة, وقد علا الوجوم وجوههم.. ومدَّ المصرى يده أولا وأمسك بمقبض الباب ـ وكان دومًا سبَّاقـَّا ـ ففتحه وتنحـَّى جانبا ليتيح للمرأة أن تدخل قبله فإبتسمت ممتنة.. وهم هو باللحاق بها إلا أن الرجل الفواح كان قد وضع بقدمه أمامه, ولم يكترث حتى بالإلتفات إليه ليشكر فتحه للباب ليدلف أولا, وبلا تردد.. شدَّ ما كان يكره ذلك!.. ولكنه أبَى أن يجعل هذا الحقير يعكر صفوة نفسه..
ونظر حوله وقام بإستكشاف كل ركن بالمكان.. غرفة إستقبال أنيقة, مزينة بصورة لإنطلاق "أبوللو" على الحائط المواجه, ونافذة بطول الحائط تطل على البرج الجنوبى لمركز التجارة العالمى, و بين مقعدين بركن الغرفة الأيمن يقبع تمثال لرواد الفضاء "أرمسترونج و ألدرن" لحظة وقوفهم فوق سطح القمر فى يوليو 1969.. ولدهشته لم يجد أحدًا بالغرفة سواهما حيث إختفـَى الرجل الفواح الى الداخل.. ونظر الى ساعته, وكانت مازالت الثامنة والنصف, نصف ساعة قبل الموعد المحدد فى الإعلان.. وفوق منضدة صغيرة على بعد خطوات, رُصـَّت مجموعة من الأوراق, والى جانبها قامت لافتة صغيرة تقول: "الى الراغبين فى التقديم الى رحلة القمر التجريبية الأولى, نرجو ملئ هذه الإستمارة"..
فتناول إستمارتين, ناولها واحدة, فشكرته بلكنة عربية لاحظها على الفور.. وجلست علي مقعد, وإتخذ لنفسه المقعد الملاصق.. وقال بالعربية:
"صباح الخير" , فإنتزعها من عالمها الساهم, وإلتقطت لكنته المصرية فإبتسمت وأجابت:
"صباح النور.. مصرى؟"
"أيوه .. وإنتِ"
"فلسطينية" .. وذابا فى حديث مرح يتضاحكا فيه عن مجيئهما معًا الى هنا ليلتحقا برحلة مزعومة للقمر.. هل ضاقت الأرض بهما الى هذا الحد؟ هذا مؤكد, وإلا ما جاءا..
"مصرى و فلسطينية إلتقيا فى نيويورك سعيًا للهروب الى القمر" قالتها وأطلقت ضحكة تكاد تهز بأرجاء الغرفة.. لم تكن قد ضحكت من قلبها هكذا لسنين, تعبت هى من عدها.. وكما يقولون عن عدوى الضحك وجد نفسه أولا يبتسم قليلا , ثم أكثر فأكثر, ثم أطلق هو أيضا العنان لقلبه وضحك, وضحك, وضحك كأيام الشباب, والجامعة, والرحلات, والبنات, والسهرات..
وملآ بضحكاتهما المكان بهجة, وأشعة الشمس صارت أكثر لمعانـًا عبر النافذة..
وفجأة ماتت الضحكة وشهقا فجأة لما سمعا دويًا هائلا, وزلزلة هزت الغرفة هزًا, وتحطم زجاج النافّزة محدثـًا صوت إنفجار مروع.. وتطايرت قطع الزجاج فى كل مكان كطلقات بنادق الرش التى صاد بها العصافير فى صباه.. وهبـَّا واقفين, مذعورين, وتلاقت أيديهما بينما حمت زراعه وجهيهما من وابل الزجاج المتطاير, ودوَّت صفارات الإنذار لتزيد ذعرهما ذعرًا.. ولمحا ذيل طائرة يخرج من قلب المبنى المواجه محاط بحريق هائل يلتهم المبنى أمام أعينهما..
"يا نهار أسود"..
"يا دى المصيبة"
.. وشدها من يدها ناحية الباب ليجدا الرجل القذر يندفع من الداخل نازف الوجه وبين شعيرات ذقنه النابتة إستقرت عشرات الشظايا البللورية فى بشرته, فأضفت على وجهه مسحة غير حقيقية وكأنه آت لتوه من عالم آخر.. ماذا حدث؟ هل هى النهاية؟ ماذا سنفعل؟ وصراخ.. و بكاء.. إمتزج بعويل صفارات الإنذار.. فدفعهما أمامه نحو الباب وهما مستسلمان تمامًا اليه بالرغم من أنه لم ينبس بكلمة واحدة.. وفى البهو جرَّهما جرًا نحو سلم الطوارئ المزدحم بالبشر المذعور, يقفزون فوق الدرجات من كل إتجاه..
وساد فى المكان دوى هائل, ورائحة دخان خانقة, وإلتحمت الأيادى أكثر, جاذبة أجسادهم بعضهم نحو بعض, فإندمجوا فى عناق واحد, مملوء بالألم, وبالخوف, وبالضياع.. وبعدها ساد ظلام وسكون أبدى, إكتنفهم جميعـًا..
جزمة شامواه
آخر أسبوع للصيام.. ثم نأكل اللحم والجبن والبيض, ونشرب الشاى باللبن فى الصباح.. كانت تلك هى أول الخواطر التى أفاق بها الصبى "يوسف أبادير" عندما تسرسبت أول بشائر النهار عبر ضُلف النافذة المغلقة بإحكام لدرء برودة الليل, ورطوبة الشتاء القاهرى, بغرفته الصغيرة فى الطابق الأول.. حال السقيع بين تركه للسرير الدافئ, وإستمتع بإسترجاع ذكريات ليلة الأمس.. ليلة رأس السنة.. وهو مستلقى على ظهره عاقدًا بذراعيه خلف رأسه , محملقـًا نحو السقف الذى تعرى بعض طلائه بفعل الرطوبة , ومبتسمًا برضى عما جال بخاطره فى تلك اللحظة.. الطرطور المزركش وقناع الوجه الملون.. والموسيقى الصاخبة الآتية من الريكوردر الموضوع على المنضدة المستطيلة فى صدر البهو فى شقة عمه المترامية,
فى الميدان العتيق بوسط البلد .. وقد تأنق الرجال بالبدل الداكنة والكرافتات اللامعة وأكواب الويسكى المثلجة محتضَـنة بحب وأناقة, وهم يديرونها ببطئ لتتراقص قطع الثلج بداخلها ويتضاحكون ويتسامرون فيما بينهم , أو مع زوجاتهم بفساتينهن الملونة الأنيقة المزينة بالحلي اللامعة وروائح البارفان المختلطه مع دخان السيجار الرخيص الذى يدخنه الجد الكبير, والسجائر الكيلوباترا عند باقى الأعمام والأخوال, تملأ المكان..
ولكن أجمل من كل ذلك كان لقاءه مع أبناء وبنات العم والعمة والخال والخالة , تشملهم جميعا بهجة عارمة , منذ أن تطأ أقدامهم أرضية البهو المكسوة ببلاط أبيض طليانى أملس, ومبروَّز للغرفة, إصطفت بلاطات مشغولة برسم أسود معكوف يضفى على المكان أناقة وجمال , طالما أثار رونقها يوسف فى طفولته.. ولكن أروع الأحساس كان عندما يبدأ الرقص ويدق بكعب حذائه فوق البلاط محدثا رنينا مميزًا, يسرى الى عظامه ويسمعه بأذنه هو ـ بالرغم من الموسيقى الصاخبة والضحكات المجلجلة ـ غير ما يسمعه أى شخص آخر.. وأمسك بيد حبيبته ـ إبنة خاله التى تماثله فى العمر ـ ودفعها وجذبها, ثم تركها لأخرى , أو تركته لآخر, لايهم .. ويمسك الصبية بخصر بعضهم البعض صانعيين قطارًا صبيانيًا مرحًا, ويروحون, ويجيئون, ويدورون على إيقاع الموسيقى.. ويدق بكعبه ويفرح .. يدق ويضحك .. وتغرد ضحكاتهم البريئة فوق المكان ..
وفجأة تمزقت مقدمة حزاءه من كثرة الدق , أو من كثرة الضحك , أراد حزاءه المتهرئ , من كم ما ركل من الأحجار وثمار الأشجار اليابسة على طول الطريق , أراد أن يشاركهم الليلة ضحكاتهم ففغر عن فاه ضاحكا .. فضحكوا معه , وضحكوا منه .. الكل سخسخ من الضحك إلا اللعين "أمجد" إبن العم السمج , الشهير ب"أغلس", نظر اليه محتقرًا من خلف نظارته السميكة.. وبتلقائية, نحا بحذاءه جانبا ومضى يمرح ويقفز ويفرح, وعند منتصف الليل أطفأوا الأنوارلمدة ثوانى وسط صراخ الصبية وزمر الزمامير وفرقعة البالون .. ثم أضيئت الأنوار وبقيادة عمه وقف الجميع وصلوا : "يا أبانا الذى فى السماء ليتقدس إسمك..."
آخر أسبوع للصيام .. ثم يجئ العيد .. عيد الميلاد .. ويذهبون الى الكنيسة الموشحة بالبياض , والأنوار تتلألأ فيها , والجمع يرفلون بأفخر الثياب , وتتعالى الترانيم والتسابيح الى ما بعد منتصف الليل , وأجنحة الفرح ترفرف فوق المكان إحتفالا بمولد المسيح .. ثم يأتى اللقاء المرتقب بالفتـَّة واللحم المحمر والبيض المسلوق المحمر بالزبد .. وسال لعابه وهو قابع فى سريره غارق فى أحلام يقظته .. ولكن مهلا .. كيف يكون كل هذا وقد تمزق حذاءه الوحيد ليلة أمس ؟ لا كنيسة ولا صلاة ولا فتـَّة ولا يحزنون! .. وإنتفض للوقت وطار من فوق السرير , ولم يعن له حتى أن يبحث عن فردة شبشبه , وأسرع حافيًا عبر غرفة المعيشة ليوقظ أبويه فورً ليتدبرا معه أمر هذا الموقف العصيب..
- " بابا .. ماما .. صباح الخير .. النهاردة أول يناير .. أول يوم فى السنة الجديدة .. يللا قوموا بقى بلاش كسل .. يللا .. "
- " دوشة إيه دى اللى ع الصبح .. ياإبنى روح نام لك شويه دى الشمس يا دوبك طالعه.. والنهاردة أجازة .. روح يا يوسف .. ربنا يهديك يا إبنى.. " جاءه صوت أمه المستعطِف من وراء الباب.. , و أطرق برأسه إستسلامًا, وسقط كتفاه عنه من ثقل الحمل, وأدار بجسده وإتجه منكسرًا نحو غرفته متفكرًا "أصلهم ما يعرفوش المصيبة اللى أنا فيها".. وألقى بجسده متهالكا فوق السرير دفعة واحدة وكأن قدماه الصغيرة لم تعد بقادرة أن تتحمل عبء كل هذا الهم الثقيل الذى تكوم فوق كاهله , منذ تذكر حذاءه الضاحك الباكى .. إحتفالا بليلة رأس السنة..
أسبوع واحد فقط .. ويجئ العيد .. وفاضت عينى يوسف بدموع ساخنة , نبعت من قلبه وإحتقن بها حلقه فإنسابت فوق خديه الناعمتين التى لم تعبث بها بعد أمور الحياة وتغيراتها , فلا شعيرات ولا بثور أو ندبات ولا ثنايات .. ونظر ثانية نحو السقف ولكنه إجتازه هذه المرة , وعلا به حتى وصل الى السماء , وبحث عن الله حتى وجده و شكا له همه وسط دموعه ونهنهته , وراح فى النوم .. لم يدرى يوسف كم مر به وهو نائم , ولكنه كان بالتأكيد يتأمل نفسه وهو ذاهب الى الكنيسة ليلة العيد بالشراب فقط وكان الجميع ينظر اليه بإستغراب حتى نادى به "أمجد"مشددًا بأن يعود الى بيته فورًا لأنه لا يليق أن نذهب الى بيت ربنا من غير جزمة, وحينئذ بدأ الجميع يلتفتون نحوه ويحثونه على الإنصراف .. وتمنى هو لو إختفى فجأة عن عيونهم من فرط الخجل .. ولم ينقذه من نداءاتهم غير أبيه الذى لاح له يدعوه من بعيد ليأتى اليه , وينادى ويلح.. يا يوسف.. يا يوسف.. والصوت يقترب ويقترب.. ويد تهزه بحنان وتضمه.. وفتح عينيه ليجد أباه واقفا أمامه يدعوه : "يللا كفايه نوم.. قوم بقى عشان نروح نجيب لك جزمة العيد" ..
" أنا عايز جزمة شامواه" قالها وتنهد بإرتياح.. فضحك الأب مقهقها..
أسبوع باقى ويأتى الفرح .. غدًا يستلم البنطلون الصوف البنى من عند "عم فاضل" الترزى , وأمه أوشكت على الإنتهاء من غزل أكمام البلوفر التريكو الزيتى ذو الصدر الـ"ﭽـاكار" .. أى أنه لم يعد ينقصه سوى الجزمة الشامواه البيـﭻ وتكنمل الأناقة.. وفى الشارع, ويده الصغيرة تنام مسترخية فى يد أبيه , سمع صوت عبد المطلب يجلجل من راديو الحاتى على ناصية الشارع " السبت فات والحد فات, وبعد بكره يوم التلات.." وجاء الأتوبيس بلا تأخير فإستبشر خيرًا.. ومن ميدان التحرير الى شارع سليمان باشا الى عبد الخالق ثروت دابت أرجلهم بحثًا عن جزمة شامواه فى قسم الأطفال فى عشرات المحلات بلا جدوى.. حتى وجدوها بمحل بجوار ميدان الأوبرا.. ويا للفرحة كانت مخفضة بسبب الأعياد.. مد قدمه الصغيرة ليد البائع الخبيرة الذى زلقها بحذق داخلها فى لحظة, وللوقت خلع حذاءه الآخر ودلف فى الفردة الأخرى , ومضى يتبختر فى المحل أمام المرايات المائلة فوق مقدمة الكراسى الحصان التى يجلس فوقها الباعة .. لم يكن يحلم أنها ستكون بهذا الجمال , و لم يبتغى آنذاك من الحياة أكثر من أن يرتدى الجزمة الشامواه للبيت .. فضحك البائع وقال لأبيه "إبنك عايق قوى يا بيه".. وقال الأب أن ينبغى أن يخلع عنه الحذاء ليدفع ثمنه, سبعة جنيهات و نصف ..
وجاء العيد قبل أن يشعر يوسف بمضى الأسبوع .. فالزمن يمر فوق رءوس من لا يعنوه , ويقتل من يرصدوا مروره .. وذهبت الأسرة الى الكنيسة فى ليلة العيد , وأكل يوسف الفته واللحم والبيض المحمر, وفى صباح اليوم التالى إتجه الجميع الى بيت عمه مرتديًا الملابس الجديدة .. وكان يسير فوق الرصيف وكأنه يطير فى حزائه الجديد متجنبًا كل الحفر وبركات المياه المتناثرة وخصوصًا أمام الدكاكين والمقاهى.. وحتى الطوب والزلط الذى ناداه ليركله, تجنبه كله متعاليًا ..
ودخلوا الى بيت عمه, وتلاقى مع أقرانه, الكل يرفل مزهوًا بحلته الجديدة , فهذى ترتدى بالطو أحمر فوق فستان أبيض , وهذا يرتدى جزمة سودء لامعة ببريق وكرافـات أحمر, وجاء أمجد مرتديًا بدلة كحلى غامقة, أغمق من ليلة غاب عنها قمرها, وقميص رمادى حزين مزين بـكرافـات أزرق وأسود , أنيقة وإن أضفت عليه قتامة كانت روحه فى غِنى عنها..
"كل سنة وإنت طيب يا أمجد" ..
"وإنت بخير وصحة وسلامة"..
"يللا ننزل الحوش نلعب لغاية ما يخلص الغدا"..
"إنت إتجننت ولا إيه؟ نلعب في الحوش ده إيه؟ مش واخد بالك من البدلة الجديدة؟"
"وماله.. ما أنا كمان لابس جديد.. إيه رأيك بالذمه فى جزمتى الجديدة؟"
"كويسة.."
"كويسة؟.. كويسة؟؟.. دى شامواه!!"
"شامواه؟ .. حلوة شامواه دى"
"لأ وعارف بكام؟"
"لأ..""بسبعة جنيه ونص"
"ماهو كل شئ بتمنه.." قالها أمجد والإبتسامة الصفراء تعلو وجهه.. ساد صمتٌ ثقيل بعدها, ولا تزال ذيوله تتبعه الى يومنا هذا..
الفولية وآل عمران
"الله أكبر".. شق هدوء الليل وسكينته صوت الشيخ بلال المدعم بمكبر الصوت المعلق فوق باب الجامع الوحيد فى قرية "العتامنة" بمحافظة "سوهاج".. "الله أكبر".. وتقلب "عبد الموجود الفولى" فى فرشتة الموضوعة أسفل النافذة الوحيدة فى داره, أو لأجل الدقة, فى الغرفة العارية المستطيلة المصنوعة من الطوب اللبن والمسقوفة بأعواد الذرة الجافة, والتى تجمعه بزوجته "مليحة" وأولاده الثلاث, والمعزتين, والثلاث بطات... "أشهد ألا إله إلا الله".. وفتح "عبد الموجود" عينيه, ولأول وهلة لم يستطع أن يميز الفراغ الداكن من حوله, فرفع رأسه وأرتكز على منكبيه, ثم رويداً إستطاعت عيناه أن تشحذ بصيص النور الخافت المنبعث عبر فتحة النافذة, من هلال يلملم إشعاعاته قبل الأفول.. "أشهد ألا إله إلا الله".. وتمطى "عبد الموجود" وهب واقفاً ثم خطا بحذر ثلاث خطوات, متفادياً أبدان أولاده المتبعثرين على أرضية الدار, و قرب من الزير الموضوع فى الناحية القبلية للغرفة, ورفع الغطاء ومد يده يتحسس الماء البارد, وإغترف حِفنة منه وألقاها بغتة فوق وجهه وتوضأ..
فتح "عبد الموجود الفولى" باب الدار محدثاً زمجرته المعهودة لعدم إستواء الأرض من تحته, وخطا إلى الأمام فى إتجاه الجسر الوحيد المؤدى الى الناحية الشرقية للقرية حيث جامع الشيخ بلال.. وما بين النداءات المنطلقة عبر مكبر الصوت, خيم على القرية صمت ثقيل حتى أنه بات يسمع صوت أنفاسه المتلاحقة وهو يهم نحو الجامع ليؤدى صلاة الفجر... وفجأة.. سمع صوت قادم من ناحية الجسر وكأن ذئب, أو حيوان ما, قرر الهجوم بعد فترة مهادنة .. وسمع نداء رجل, بدى له حينذاك مألوفاً له, يصرخ "إتشاهد على روحك يا عبد الموجود.. والبادى أظلم.." ثم مزق أذنيه صرير عيار نارى آت من ناحية الرجل المجهول, وقبل أن يذوب الصوت فى سكون الليل دوىّ صرير ثانٍ وأحس بألم شديد لم يلبث أن تلاشى, وساد الصمت..
. . .
مد "صابر الفولى" يده للمرة العاشرة فى جيب المعطف الأيمن يتحسس جواز السفرالمحتضن لتذكرة الطائرة وهو واقف فى طابور الجوازات, الذى هُيئ له أنه واقف به لدهور.. وزفر بعصبية ملحوظة متأففاً من طول الإنتظار "ميتا بجَى راح نُخلـُص عاد".. كان الضجيج من حوله لا يطاق.. وزاد من ضيقه, قناعته بصعوبة المهمة التى اضطلعه بها عمه- شيخ البلد- "الحاج عبد الجبار الفولى" .. فبعد مصرع شقيقه "عبد الموجود" على يد آل عمران, رفضت العائلة تلقى العزاء فيه, وفى نفس اليوم إنعقد مجلس فى دار "الحاج عبد الجبار" الذى نزل بيده الثقيلة فوق كتفه قائلاً:
"نبجَى ناخد عزا بعد ما تجيب لنا خبر الولا إبراهيم ولد جابر عمران".. وكما تقضى النار بالهشيم فى لحظات, إنفض المجلس, وإمتلأ برغبة مجنونة للإنتقام.. وغابت نيران الحزن الذى مزق روحه منذ ساعات قليلة, منذ أن طرق أحد الغلمان باب داره مولولاً ومعلناً عن مصرع شقيقه الأكبر فى ذلك اليوم المشئوم.. وفى الغداة, علم ان "ابراهيم جابر عمران" والذى كان قد أتم لتوه دراسته بكلية التجارة بجامعة القاهرة, قد فر من البلدة وسافر الى أمريكا هرباً وجبناً من مواجهة مصيره المحتوم كما يليق بالرجال..
جلس "صابر" بجوار النافذة ينظر الى السحاب المتناثر أسفله وهاله صغر المدينة المترامية الأطراف وشوارعها المكتظة وعماراتها الشاهقة, بل وحتى نيلها العملاق صار, عن بعد , كأصغر ترعة فى قريته.. و سرح ببصره نحو الأفق, وقرص الشمس الغارب قبالته, وأدرك لحظتها أن هذه الشمس ليست بغاربة وإنما, مثله, كانت ذاهبة لتبحث عن "ابراهيم جابر عمران" فى الناحية الأخرى من الأرض.. وإطمأن لهذا الخاطر, وأغمض عينيه وراح فى سبات عميق..
. . .
وقف "صابر الفولى" أمام محل بقالة عربى بمدينة "جيرسى سيتى" فى الطريق المؤدى الى "كنيدى سكوير" حيث كان يسكن بغرفة فى الدور الثالث.. كان صوت"عمرو دياب" المنبعث من المحل يغنى "مابلاش نتكلم فى الماضى, الماضى ده كان كله جراح.." ورائحة الشاورمة الملفوفة حول العامود الحديدى فى شكل قمع هائل, يجذباه جذباً الى هذا المحل بالذات.. وأسرع داخلاً بعد أن كادت أطرافه أن تتجمد, بالرغم من الشمس الساطعة فى هذا الصباح الجميل.. وتوجه على الفور نحو الرجل الجالس خلف صندوق العرض الزجاجى المكتظ بالبضائع المصرية, وقال :
"سلامو عليكو".. فأجابه الرجل :
"وعليكم السلام.. أى خدمة؟".. وتلعثم "صابر" الذى كان ينشد طرفاً لخيط قد يقوده لغريمه المنشود..
"إيه .. بتدوّر على شغل؟" .. بادره الرجل, فبلع "صابر" ريقه وزفر بإرتياح وقال:
"إيوه"..
"معاك ورق؟" باغته الرجل..
"ورج إيه؟" .. تساءل "صابر" ..
"يعنى ح يكون ورق كوتشينة ولا ورق جرانين يا جدع أنت.. معاك تصريح عمل؟".. قالها الرجل بسخرية ملحوظة..
"لع" .. رد "صابر" بيأس..
"خلاص تشتغل فى المخزن ورا بخمسة وتلاتين دولار فى اليوم غير الأكل.. قلت إيه؟" .. ولم يصدق "صابر" أذنيه لما سمع هذا الكلام.. خمسة وتلاتين دولار؟.. فى اليوم الواحد؟.. دول يطلعوا ييجى ميتين جنيه!!.. فى اليوم؟.. يعنى كام كده فى الشهر؟..
"إيه؟ قلت إيه يا بلدياتنا.. أيوه ولا لأ؟".. أيقظه صوت الرجل من أحلام اليقظة التى كانت قد إنتهت به ليصبح عمدة العتامنة محافظة سوهاج بذات نفسها ...
. . .
ساعات طويلة من العمل الشاق إستغرقت أيامه.. أول من يصل للمخزن فيبدأ يرصص الصناديق الواردة فى اليوم السابق, ويعد البضاعة المطلوبة فى الدكان للبيع.. وآخر من ينصرف فى آخر اليوم بعد أن يعد العدة لليوم التالى.. ثم يذرع الطرق ليلا باحثا عن ضالته بين زوار المقاهى القريبة والمحلات المتناثرة هنا وهناك, وفي آخر الليل يتهاوى فوق سريره منهكا من فرط الإجهاد, و يبدأ غدًا يومًا جديدًا.. يسأل العمال معه عن "إبراهيم جابر عمران" فيتضاحكون من سذاجته لمجرد التفكير في العثور على تلك الإبرة وسط كومة من القش.. وفي غمرة العمل والكفاح والبحث المضني, تقابل "صابرالفولي" مع "كارولين" الأمريكية الجميلة, التي إنبهرت بسمرته, وبرجولته, وقوامه الممشوق, يوم زارت المحل لتبتاع خبزها العربي, وعاودته ثانية وثالثة, الى أن تعارفا.. وتلاقيا بعدها مرات, وفي يوم قالت أن ينبغي به أن يشاركها الدراسة الليلية في الجامعة حتى يرتفع بمستواه العلمي والمادي, فراقت له الفكرة, وقال ربما أعثر هناك بـ"إبراهيم جابر عمران"..
. . .
وضع "صابر الفولى" كوب الشاى على المنضدة المغطاة بالمفرش الوردى, وأدار وجهه الى يساره فإمتد بنظره نحو "كارولين" وهى ماتزال نائمة على السرير المتاخم للنافذة. تسلل ضوء الشمس الأول بين ضلع النافذة والستارة المرخية بدلال, ليضيء الجانب الأيسر من وجهها الملائكى المسترخى فى أمان النوم, وأضاء خصلات شعرها الذهبى المبعثر برقة فوق جبينها الناصع, فإزداد بنور الشمس لمعانه.. وأخذ رشفة أخرى من الشاى الساخن وإبتسم برضى و شكر ربه.. ووجد نفسه يقوم من على الكرسى ويتقدم بخطوات خفيفة ناحية "كارولين".. وترك قبلة على جبهتها ثم رفل الى الحمام وأطلق مياه الدش, ثم تجرد من ملابس النوم.. وتحسس "صابر" رأسه المغطى برغاوى الشامبو, وجعل يفرك بأصابعه فروة رأسه والماء الساخن ينساب بين أنامله ويدغدغ كل ذرة فى جسده.. وأغمض عينيه والماء لايزال يغسل روحه و غنى للست "ح اسيبك للزمن..لاعتاب ولا شجن". . وأعجبه غناءه جداً.. وبينما كان يجفف جسمه المبلل, تراءى له وجه أخيه"عبد الموجود الفولى" شاخصًا إليه ملغمطًا بالطين المبلول, كيوم تسابقا سويًا لعبور ترعة بلدهم عَوْمًا حينًا, ودفعًا بأرجلهما المغروسة فى قاع المياه اللزج فى حين آخر, حتى مرقا سويًا الى الجانب الآخر وضحكات الشباب المجلجلة ترن فى جنبات القرية العتيقة.. وفوجئ بصورة "إبراهيم عمران" تقتحم عليه سكينته.. ولكنه لفظها فوراً وبنفس السرعة التى جاءته بها, مسترجعًا الإحساس المنعش الذى تركه فى نفسه الحمام الساخن, ورائحة الصابون المنعشة تفوح من جسده.. غريب ذلك الإحساس الذى إعتراه.. والذى لن يجعل شعوره بالفرحة للغَوْط فى الطين ممكنًا بعد اليوم.. أدرك لحظتها حجم التغيير الذى حل به, وهول الفاجعة التي تنتظره.. ولم يصدق نفسه حين قال, وبصوت مسموع : "تار إيه وزفت إيه ده اللى عايخللينى أجتل بنى آدم عايش فى الدنيا الحلوه دى.. ويمكن يكون مزوّج وعنده ولاد.. ده حتى مايرضيش ربنا".. وإستراح "صابر الفولى" لهذه الفكرة وشعر لأول مرة بالسعادة الكاملة..
. . .
كان يوما ًرائع الجمال, فقد أمطرت السماء بالأمس وغسلت الأشجار والشوارع والأبنية, فبدى الكل فى أبهج صورة.. وأمسك "صابر" بيد أبنه "كريم" ومضى مزهواً به فى "كينيدى بوليفار" متجهين الى "ماكدونالدز" ليبتاع له "الهامبورجر" و "الميلك شيك" الذى كان قد وعد بهما لتفوقه فى نهاية عامه الدراسى الأول.. وإرتدى "كريم" الشورت الأحمر, والقميص الأبيض, والكاب الأزرق, ولمع سنه اللؤلؤى, وبرقت عيناه العسليتان بفرحة غامرة, لم تترك للأب الولهان بداً من أن تبقى نظراته مثبتة على الصبى.. وسرى دفئ بشائر الصيف فى الدنيا, وفاحت رائحة الزهور فى كل مكان.. وفى زحام الطريق كاد "صابر الفولى" أن يصطدم بأحد المارة, فرفع رأسه ليعتذر وتسمّر فى مكانه حين إلتقت عيناه بعينىّ "إبراهيم جابر عمران"..
وفجأة إنطلق يعدو كالمسعور وقفز بخفة الى اليمين بين سيارتين مصطفتين الى جانب الرصيف, ودلف بينهما بسرعة ومهارة .. وأطلق لساقيه العنان لبضعة خطوات حيث إستوقفتهما سيارة مسرعة.. ودوى فى الشارع صوت الدواليب تحك فوق الإسفلت اللامع ثم صوت إرتطام فخذ "إبراهيم" بمقدمة السيارة, وطار فى الهواء ودار جسمه دورة كاملة ليهبط مرة أخرى فوق الغطاء الأمامى, ويدور ثانية ليستقر أخيراً أمام زجاج السيارة.. ورفع "إبراهيم" برأسه قليلا لينظر إذا ما كان قد فقد غريمه, ولمَّا تلاقت أعينهما إبتسم بسخرية وإستسلام لمقادير الأمور.. لم يستغرق المشهد سوى بعض الثوانى, وإن بدت دهرية..
"ويى.. وييى.. ويى.. وييى.."
وإمتلأ المكان بصوت سيارات البوليس والإسعاف التى حضرت فى دقائق وهى تولول معلنة للجميع جثامة الحدث.. وبينما حمل رجال الإسعاف "إبراهيم" من فوق فتات الحطام, شدّ "صابر الفولى" بقوة على يد "كريم" الصغيرة وهو يتمتم "يارب تجعل العواجب سليمة"..
أشياء الحياة الصغيرة
فتحت " ياسمين" عينيها ببطئ وتكاسل, ولم تدرك لأول وهلة مكانها أو زمانها, بل إعتقدت أنها كانت ترقد فوق سريرها فى بيتها, فمدت يدها اليمنى تتفحص بأناملها موضع الساعة الموضوعة على الكومودينو بجوار الفراش.. وإستغربت لما إلتقت أصابعها التائهة بجبهة وعينين وأنف ووجه غير مُتـوَقـَع.. فلوَت عنقها ناحية الجسد الغريب فوجدت ـ ولشدة دهشتها ـ " مجدى مراد" مستغرقًا فى نومه بجانبها.. ولم تجد حالا تفسيرا لماحدث.. شعرت بنشوة مسترسلة تجتاحها, وتساءلت وإبتسامة ساخرة ترتسم فوق وجهها, عما إذا ما كان " فؤاد" قد عن له حتى أن يلاحظ غيبتها ليلة أمس..
. . .
بالرغم من طول سنين الغربة, وتزاوجه الفعلى مع المجتمع الغربى, إلا أن " فؤاد الشاعر" لم يكف يومًا عن عشقه لأغنية لأم كلثوم مع كوب مظبوط من الشاى الساخن, تتعالى منه الأبخرة فتشمل وجهه ومنخاره عندما يقربها ليرتشفها بتؤدة مشرشفـًا.. وأشعل سيجارة, وأطلق بدخانها أمامه, قبل أن يلحق بذيله ويسحبه سحبا الى رئتيه, ثم أطلقه لاحقا ببقية الدخان, المتماوج مع رنين القانون والعود, وشجن الكمان والتشيللو, ورخامة صوت "الست" وإحساسها المتألق بكلمات أغنيتها, فألقت به الى دنيا غير الدنيا.. ولكن أعاده الى عالمه صوت " ياسمين" تستحثه للصعود الى الدور العلوى لإرتداء ملابس السهرة المرتقبة..
. . .
أدرك "مجدى مراد" يومها أن طريق حياته المحفور أمامه لابد وأن يدركه تغيير جذرى.. لقد عصره الملل, و سئم النجاحات المتوالية.. ماذا يعنى لو يفشل يوما؟ ماذا لو شعر اليوم بقبضة الألم تمسك بتلابيبه وتسحق كبرياءه الأبدى, ولو على سبيل التغيير؟ ماذا لو زُلت قدمه وسقط فى الوحل مثلما سقط باقى البشر, فيختبر المهانة وضعف النفس كما يختبرون؟ وماذا لو تلوثت نفسه بطين الإنسانية الذى يصنع الحياة؟ ماذا لو صار مثل "فؤاد" ولو ليوم واحد؟ فنان يعشق الفن ويذوب فى الحياة, ولا يبالى بمال أو جاه .. العجيب أنهما تزاملا منذ الطفولة و إن كانوا ـ على تشابهما الملحوظ ـ مختلفين ظاهريًا في طموحاتهما وطريقهما في الحياة.. ورفع سماعة التليفون وأخبر سكرتيرته بعزمه على الإنصراف الآن, فنبهته الى موعده مع مدير الموقع, وكان قد نسيه تماما.. فقال بحزم:
-"أنا ماشى.. كلميه حالا وقدمى أى إعتذار".. فردَّت مستسلمة:
-"حاضر يا فندم"
. . .
عند الباب, تلاقـوا بالصدفة..
"أهلا مجدى .. فينك يا راجل مش باين" أطلقها فؤاد بمحبة حقيقية ..
" والله واحشنى بجد" أجابه مجدى بنفس الود ..
"هاللو ياسمين" قالت سوزان , الحسناء الأمريكية, والمحامية الناجحة , بنبرة واثقة..
"هاى يا وحشة, فينك؟" أجابت ياسمين بتصنع ملحوظ .. مصرية حتى النخاع .. تعشق السهر وبذخ العيش .. وتهيم بمجدى .. بنجاحه وصلابته .. وتشفق على ضعف فؤاد وخموله ..
وفى الداخل دارت بهم كئوس النبيذ الفاخر, والكلمات المعسولة, والموسيقى الحالمة.. وتبودلت أحاديث مسطحة وضحكات فارغة وأحضان باردة حتى إنتصفت ليلتهم ..
"لم أعهدك رومانسيا الى هذا الحد يا فؤاد .. أتعنى أنك تختار حبا دافئا عن مال أو شهرة؟" قالتها سوزان والخمر يدور برأسها..
" أنا لا أزعم أنى رومانسى, ولكن أولوياتى واضحة عندى.. أنا أختار الحب لأنه أبقـَى, والدفئ لأنه أكثر أمانـًا.." قالها وإبتسم بثقة..
"شتان بينك وبين مجدى الذى يؤثر النجاح فوق الجميع.." ردت هى وأطلقت لعينيها العنان تجوب بجنبات البهو الواسع حولهما.. وأدركتها فكرة مجنونة.. الشبه الظاهرى بين مجدى وفؤاد قد يجعلها تفوز بمأربها دون مخاطر.. ثم أنها لاحظت تودده الواضح لياسمين الليلة.. لم لا؟ ربما كان يتفكر هو أيضا فى نفس الشئ..
" ليتنى أحقق نصف نجاح مجدى , ونصف شهرته أو سطوته , وليأخذ هو نصف راحة بالى" قالها متأملا وسكت..
"ما رأيك فى جولة بسيارتى المكشوفة فى هذه الليلة المقمرة؟" ألقتها إليه وسمَّـرت عينيها فوق عينيه بحيث لم يتسنى له الفخاخ..
"وكيف أجسر على الإباء, والأمر صدر من أجمل الجميلات"
. . .
سمراء منمنمة الملامح.. يكشف وجهها عن جمال شرقى أوشك أن يذوب بين طيات الزمن.. أطلقت شعرها الأسود ليلتها متموجا متبعثرا فوق جبهتها وكتفيها العاريين الا من خيطين رفيعين يبقيان ثوبها الحريرى الأسود الفضفاض من أن ينزلق عن جسدها البرونزى المتماسك.. وتألقت عيناها السوداء المكحلة المهاله بصبغة زرقاء خفيفة زادتها غموضًا وأنوثة.. تعلم أفكاره وإتجاهاته وتبتغى إستثارته, فأطلقت ضحكة لعوبة مجلجلة وقالت هكذا بلا مقدمات :
"شفت يا مجدى اللى بيحصل فى العراق اليومين دول.. هى دى الديمقراطية بتاعة الأمريكان؟" وبحركة غير إرادية مدت يدها لتجمع ذيل الفستان الذى إنحسر عن ركبتها المعقوصة فوق الأخرى, كاشفة عن بعض فخذها الملفوف بالنايلون الأسمر..
" يعنى إنت طول اليوم تغرفى من خير أمريكا, وطول الليل تشتمى فيها يا ست ياسمين؟ " أجابها هو بإبتسامه مستهزئه مدركًا بذكاءه محاولتها لإستدراجه لفخ العنكبوت التى تحبكه من حوله بمهارة ومكر وصبر لا ينفذ..
. . .
أطلقت " سوزان" العنان لقدميها, بعد أن جذبت بقوة مقبض الباب الخارجى للبيت, وإنتقلت فى رحلتها اليومية تجوب الشوارع عدوًا, متناسية غياب " مجدى مراد" , المصرى الناجح جدا , عنها ليلة أمس , وإنشغاله بياسمين أثناء الحفل , وقنعت هى بتجربتها الفريدة.. ولم تبالى بحبات المطر المتساقطة تداعب بشرتها, فتمد لسانها لتبلل طرفه وتتذوق طعم المطر, والفجر الوليد.. وتتلاحق أنفاسها , ويتراقص ثدييها أمامها, ويتراقص معهما شبابها ونضارتها فتنتشى, وتنتصب الحلمات, وينساب دفئ فى عروقها, فيزداد تصميمها على إكمال الطريق مهما كانت النهاية, وتدرك عبث رحلتها.. ينسدل شعرها المبلل بمزيج من العرق والمطر ويلتصق بجبهتها وخديها, فيحجب وجهها عن المارة, فينزع عنهم خصوصيتها. وتصبح هى أكثر تحررا من شخصها , فتلقى ـ منطلقة ـ بجسدها فى وجه الحياة..
. . .
" هل تسمحى لى أن أدخن فى سيارتك؟ " سألها فؤاد بتردد .. " فى الحقيقة أنا لا أطيق الدخان , ولكن إذا لم تمانع فسأوقف السيارة عند هذه الهضبة المطلة فوق المدينة, وهناك تدخن ما شئت" أجابته سوزان بنعومة .. ولفحتهما نسمة رقيقة معبقة برائحة عَطِرة .. فى الطريق لتصُّف سيارتها مرت بـ "شيفى" حمراء مكشوفة , يجلس بها شاب يعانق فتاة ويمطرها بقبلاته , وتتعالى موسيقى الـ"بوب" من الراديو . وتتذكر أيام الشباب والبيرة والعناق والـ"بيتلز" والـ"رولينج ستونز" وراحت للحظات فى إبتسامة حالمة .. ماذا تفعل بحياتها الآن أو ماذا تفعل حياتها بها؟ وهاهى تصطحب فؤاد المصرى الرجل الأسمر الدافئ فى سيارتها ليجلسا فوق الهضبة بعيد عن أعين الفضوليين كما يفعل هؤلاء الأطفال بجوارهم..
وفوجئت بفؤاد يقول:
" إنى متفهم لكل ما يجول بخاطرك .. ولكن صدقينى عندما أقول أننا كلنا أطفال وإن كنا ندعى النضج و البصيرة فى هذه الحياة.. وإلا فبالله عليكِ فماذا نحن بفاعلين هنا أو ماذا عن ياسمينة ومجدى؟ أتعلمين إنها رمقتنا شذرًا لحظة خروجنا ؟ جميعنا أطفال يمضون وقتهم فى اللعب والأكل والمداعبة والمعارك ثم نخلد جميعًا للنوم, الفرق الوحيد أنهم ـ الأطفال ـ ينامون فعلا بعكسنا نحن ندَّعى النوم بينما نسهر نرقب الساعات والأيام تفلت من بين أصابعنا الى غير رجعة.. فى الصباح نلعب لعبة الشغل والفلوس , زى "المونوبولى" تمام, ونبيع ونشترى, وبعدين نبيع تانى , ونرجع بيوتنا نلعب ماما وبابا, وبعدين فى الـ"ويك إند" نلعب عروسة وعريس, وأهو كله بيلعب مع كله.." قالها مبتسما, وأطلق دخان سيجارته فى الهواء مزهوا بأنه أكبر طفل فى المكان..
. . .
أزاحت "ياسمينة" برفق الغطاء الحريرى من فوقها , وإرتكزت على منكبيها , ثم بتكاسل جلست فى الفراش متأملة وجه مجدى النائم بجوارها وأنفاسه المنتظمة تعلو وتهبط بصدره العارى وكأنها أمواج حانية ترتفع قليلا ثم تنكسر فوق رمال شاطئ ما.. وهاهى جالسة على الشاطئ تراقب الأمواج وتتساءل .. متى عن لها أن تقوم وتتركها , وترحل بعيدًا الى صخب الشوارع وزخم المدينة .. وألقت بنظره نحو جسدها العارى الملقى بإهمال بجانبه وأطلقت بضحكة مبتورة , وكأنها شهقة , لما لاحت لها أطياف ليلتها معه , وتساءلت هل تستطيع أن تحب مثلما أحبت مجدى.. ثم تبدَّت لها سوزان بثقافتها وجمالها ونجاحها و"غربيتها" و أطرقت برأسها معلنة إستسلامها للخوض فى معركة تعلم مقدمًا نتيجتها المثبطة.. ونظرت ثانية نحو مجدى متفكرة بأن عليها أن تقنع بالفتات مادامت لاتستطيع الإستحواذ بالوليمة كلها..
. . .
فى غرفته فى البيت جلس فؤاد مستقبلا مجدى الذى أتاه كالعادة بدون إنذار.. وببشاشة لاقاه وبادله مجدى الود .. جلسا متقابلان على جانبى الغرفة الصغيرة الحميمة والمصباح الشرقى المتدلى من السقف يلقى بضوءه الخفيض بينهما مضيفًا للمكان دفئا وسكينة, وبالكاد ينير وجهيهما مؤكدا, بإغفاله للتفاصيل المدققة, تشابههما العجيب.. نفس الطول الفارع , وتقريبا نفس البنية ولون البشرة وحتى الملامح المصرية المميزة.. وعلى الرغم من التشابه المذهل , فقد تباينت شخصياتهم كل التباين.. ومع ذلك فقد تزاملا منذ أن وعيا لدنياهما , وتصادقا على طول السنين, ونمت بينهما علاقة ودودة إزدادا بها إكبارا وحبًا بعضهما لبعض.. وكأن خصائصهما معًا تصل بهما الى حالة من التكامل تساعدهما على الإستمرار فى الخوض فى دروب الحياة والصداقة والود .. وبدأ مجدى الحديث كعادته:
"كيف هى الحياة تسير بك؟"
"بى أو بدونى تسير"
"تقتلنى بردودك الفلسفية تلك.. أنت تعلم بالظبط ماذا أعنى فلما تلف وتدور؟"
"لا لف ولا دوران.. فقط تسليم بالأمر الواقع.. حياتنا مجموعة من الأشياء الصغيرة نجمعها من كل شاطئ يرسى به قاربنا, لنلهو بها قليلا, ثم نتركها قسرا لغيرنا يلعب بها من بعدنا.."
"وهل ينطبق هذا على ياسمينة وسوزان أيضا؟"
"هما تسعيان لإقتناءنا لتلعب كل منهما ـ وحدها ـ بلعبتها المفضلة عندها, ولا تدركان بأننا لا نفترق أبدًا حتى ولو سعينا نحن لذلك"
"وحتى لو نجحنا فى سعينا, ما الفائدة؟ ففى النهاية يترك الكل أشياء الحياة الصغيرة ويمضى الجميع الى غايتهم المحتومة..."
غُربة
إنخفضت درجة الحرارة بصورة ملحوظة. . وبدأت كُويرَات الثلج الهشة تتمايل فى الهواء وكأنها تتحايل دون الوصول الى الأرض فتتهشم.. وإمتدت المسطحات المغطاة بالحشيش الأصفر تتخلله جزر خضراء متناثرة لم يطلها السقيع فتذبل وتصْفـَّر كأقرانها.. ووقف طابور الأشجار الحزين بشموخ يمد أذرعته الجافة العارية نحو السماء, داعياً بألا يقسوا عليه برد الشتاء الذى حل مبكراً على غير العادة..
. . .
و مضت "نملة" وحيدة, يبدوا أنها ضلّت طريقها لدهور- نملية- وهى تحمل فوق ظهرها كسرة خبز جاف عثرت عليها بمعجزة بعد أن كادت أن تفقد الأمل فى أية غنيمة تعود بها الى مستعمرتها إستعداداً لنوم طويل وحالة سكون وإستكانة أملت بها عليها قوة خفية منذ الأزل..
وصلَت أخيراً الى أول الطريق الأسمنتى المتعرج الذى تعرفه عن ظهر قلب, بعد أن قطعته عشرات المرات من قبل.. ولكنها – هذه المرة- تواجه تحدى جديد مرعب, متمثلاً فى هذه الكرات البيضاء الهائلة التى بدأت تتساقط من حيث لا تدرى, لترتطم بالأرض و تصير فتاتاً محدثةً دوياَ – نملياً- لا يحتمل.. أين منها والشق الصغير فى أسفل الجدار فى آخر هذا الطريق المتناهى.. وبرغم الأحمال وهموم الطريق, ووهن الجوع والظمأ وطول التغرب, عملت النملة على مراوغة القدَر ووصلت الى شقها ودلفت الى الممر الطويل المؤدى الى الفراغ داخل الجدار حيث الصحبة والدفئ والأمان..
وقوبلت عند وصولها بالأحضان والترحاب بعد أن لامستها قرون النملات الإستشعارية مؤمنة إنتماءها لذات القبيلة أو المستعمرة.. وكان المكان يعج بنملٍ من كل حجم وكل رتبة ووظيفة وقدرات – نملية – وكان الجميع فى حالة حركة دئوبة تدور بهم حول أنفسهم وحول الآخرين والأخريات فى نظام بديع بين الجدارين الخارجى والداخلى للبيت, حين سُمع فجأة رنين التليفون من الداخل يهز المكان هزاً..
. . .
جلسَت " ليلى" على الكرسى الوثير المقابل للمدفأة وقد ثنيت ركبتيها أمامها وعقدت ذراعيها حولهما وألقت بخدها الأيسر فوق الركبتين وراحت فى البكاء.. لم تكن تدرى لماذا تبكى هذه المرة.. كان زوجها بالخارج, والأولاد فى غرفهم بالطابق العلوى, حين إنتهت من غسيل آخر قطعة من جبل الأوانى و أدوات الطعام الذى تراكم من بعد العشاء.. ودارت " ليلى" حول المطبخ وغرفة الطعام وصالة المعيشة الملتحقة تطفئ الأنوار, ماعدا مصباح صغير بجوار التليفون.. وسكنت فى العتمة المحببة لديها وكأنها تباشر طقوس خلوتها المألوفة التى غالباً ما تؤدى الى رفع قرابين الدموع لإله الأحزان والوحدة الذى طالما تضرعت إليه.. وكم شق عليها أن تتوقف الآن , من قبل أن تمم مراسيمها كاملة, ومزق حزنها الأبدى صوت رنات التليفون المتلاحقة فى هذه الليلة.. ففردت ساقيها ورفعت يديها ومسّت بأناملها وجهها ومسحت عنه بلل الدموع..
. . .
منذ أيام صباها الأولى وحتى عامها الأربعين الذى ترفل به فى تلك الحياة, كان لقاءها المتجدد مع الدموع والوحدة القاسم المميز لسنين عمرها. ولكنها حرصت طوال السنين أن تمارس شعائرها وهى وحيدة, لايطل على سرها مخلوق.. وبدّلت " ليلى" حزنها – الشخصى جداً – بمرح فائض, بل وأحياناً مبالغ فى بهجته الى حد العبث, حينما إجتمعت بأفراد مستعمرتها الإنسانية.. بل وكانت هى المضطلعة دائماً وأبداً بخلق البهجة ورسم الإبتسامة على وجوههم عند العبوس.. هكذا سارت بها الأيام منذ الطفولة في بيتهم القديم المتهالك, فى الحى الشعبى الفقير حيث نشأت.. هناك لا تذكر يوماً مر بها دون أن ترى أمها تبكى.. كانت تبكى الأيام الخوالى, والحب الضائع, والفقر الظالم, والعوز المتربص, والتضحية بالقوت والملبس ليتعلم الأبناء فى المدارس الخاصة ذات المصروفات الباهظة.. وتبكى حين تراهم يشبون حولها منذرين بساعة الوداع, وتبكى حين يغيبون عن عيونها خشية أن يطول الغياب..
ربما ورثت " ليلى" طقس البكاء المتجدد من أمها.. ولكن حياة " ليلى" كانت مليئة بأسباب للحزن والبكاء كفيلة بتقزيم تلك النزعة الموروثة.. فقد طوّق الفقر عنقها منذ الصغر, فبغضت العوز.. وأحالت بمرحها المعلن لوعة الإحتياج المستتر بجزيل العطايا من زميلاتها القادرات, وبكت.. وقبلت التفريط بقبلة أو حضن بارد لأجل وجبة فى مطعم أنيق أو حتى تذكرة سينما, وبكت.. ورأت صديقاتها ترتبطن الواحدة تلو الأخرى من علية القوم, وبرغم جمالها, بقيت هى وحدها, وبكت... و قابلت صيداً واعداً يحوم حولها لزمن, وهى تتجنبه أحياناً لعدم التكافؤ, وتجذبه اليها فى أحيان أخرى لرغبة عارمة فى الهروب من براثن الفقر والحزن, وأخيراً إستجابت للصفقة وحررت عقداً بنقل الملكية, وبكت... أدركت " ليلى" على الفور أن ثروته المزعومة أصغر من أن تطفئ نار الجوع التى إكتنفتها منذ الصغر.. كما إستخلصت - بعد أيام قليلة – أن سوء المعاملة بل والقسوة أحياناً, هم الثمن الحقيقى لتلك الصفقة التى بدت خاسرة منذ البداية...
. . .
وقفت " ليلى" أعلى المنط المرتفع أمام حوض السباحة الماثل من تحتها, وقد عقدت غمامة سوداء فوق عينيها والتفت حبال حول رسغيها المعكوفتين خلف ظهرها.. وشعرت بنسمة باردة تطوف بجسدها العارى فإنتابتها قشعريرة.. وأدركت لسبب ما بأن الحوض من تحتها خال من الماء, ولكنها قفذت غير مبالية , برأسها أولاً, فإنعقصت رقبتها..
. . .
بين صاحباتها المتلامسات القرون الإستشعارية, شعرت النملة - لوهلة- بضآلتها وتفاهة حياتها فى هذا المجتمع النملى الدائم الأزلى.. لم تنعم فيه براحة ولا شعرت بتفَرُّد الإنجاز رغم جثامة الطريق.. ولكنها حملت كسرة الخبز الى المخزن مُزعِنة لقدرها المحتوم, متسائلة عمَّا يميِّزها عن قريناتها لتتفكر بمثل هذه الخواطر المحبطة.. فهى أولاً وأخيرًا عاجزة عن التفرُّد بحياتها بمعزل عن مجتمعها النملى الذى يؤَمِّن لها الوجود, والدفئ فى مواجهة صقيع الأيام...
. . .
ورحل الأهل ما بين موت أو سفر وهجرة.. وبقت " ليلى" وحيدة مع دموعها فى صومعتها, والمرح الظاهرى فى ساعات التلاقى .. ولمّا ضاقت بها السبل ذات يوم دفعت بعائلتها الى أمريكا لتلحق بأختها المهاجرة بها لسنين طوال..
ومرقت " ليلى" بسهولة عبر بوابة المستعمرة الجديدة, وبرعت بمرحها ومهارتها فى رسم البهجة فوق الوجوه العابسة, فى أن تصير عضواً بارزاً في حياتها الثانية.. وُسجلت تركيبتها الكيميائية الى الأبد فى ذاكرة أعضاء المستعمرة وصار رنين التليفون قرونهم الممتدة, يؤكدون من خلاله إنتماءهم لبعضهم البعض, إذا ما إنصرفوا لشئون الحياة.. وإتجهت " ليلى" بلهفة نحو التليفون, وتحسست رقبتها فشعرت بآلامها, ولكنها رسمت إبتسامة عريضة فوق وجهها, وأمسكت بالسماعة, وأطلقت ضحكة قصيرة قائلة:
"أهلاً يا توتى يا حبيبتى.. وحشتينى.."
هكذا تمضى الأيام والسنون تتلاحق, والغربة بين " ليلى" وبين حياتها ما تزال قدرها المحتوم...
فى غضون الليل
ترنح "أحمد حمزة" قليلاً وهو يعبر "سانسِت بوليفار" الشهير بمدينة "لوس أنجلوس" فى إحدى ليالى الشتاء.. لم يكن يدرى على وجه التحديد أين كانت وجهته, لذا فلم يكن فى الحقيقة يعجل من خطاه, بل إستمتع جداً بالترنح يمنة ويسرة, وخصوصاً لمّا أدرك بإلتفاتة عابرة أن الشارع كان خالياً تماماً من المارة.. كان الهواء فى تلك الساعة يميل لبرودة خفيفة , فعقد الحزام حول معطفه وإستمتع بالدفئ المنبعث من جسده بفعل الكحول الذى سرى فى كل خلية به وإبتسم بمزيج من التعب والقناعة.. هاهى ذى ليلة أخرى يشرب فيها حتى الثمالة يترنح بعدها وحيداً حتى يعثر بمحض الصدفة, بل قل بمثابة الإعجاز, على بيته..
كان الأستاذ "أحمد حمزة" فى أوائل العقد الخامس , وإن كان يوحى لناظره بشيخوخة مبكرة لإبيضاض شعره ونحوله عند الجبين بالإضافة للنظارة الطبية والشارب الكثيف الأبيض.. إمتهن سمسرة العقارات منذ هجرته وكون منها ثروة لا بأس بها.. ومضى بطوله الفارع ورشاقته المعهودة يتسكع فوق الرصيف المقفر والأفكار تتلاحق وتتدافع فى رأسه بلا هدف واضح, فقال لنفسه أنها بكل تأكيد تأثيرات هذه اللوحة السيريالية المتضاربة الألوان التى أمضى معظم ليلته يحدق بها, فوق الجدار المواجه لمنضدته فى الحانة, لعنها الله.. وفى محاولة لإستعادة سكينته رفع رأسه لأعلى فرأى سماءً كاحلة السواد غاب عنها القمر فزاد بريق نجومها. وإنتشى على الفور بجمال المنظر, وتوقف إعجابـًا!.. وبقى فى مكانه متأملاً وميض النجوم المتلألئ حتى إنتابه ألمٌ فى مؤخرة رأسه من جرار طول النظر لأعلى.. فدار حوله آملاً أن يجد مقعداً وفعلاً لمح موقف أتوبيس على بعد نحو مائتى قدم.. فعمل على الوصول إليه تعطشًا فى الجلوس.. ولكن ترنحه و ثـقل قدميه جعله وكأنه يخطو فوق أرض طينية مبللة, غير ممهدة, فحال ذلك دون أن يصل بسهولة الى هدفه المنشود..
لكنه أدرك مبتغاه بعد جهد منهك جعل الجلوس غاية مُِلحَّة.. وبدأ رأسه يدور به, وإرهاصات الغثيان المألوفة تحوم من حوله.. فإرتمى على المقعد الجامد ممسكاً بطرفيه, وتنفس بعمق حتى إستكان, ثم مدَّ بقدميه أمامه مفرودتين بطولهما الملحوظ و منفرجتين بإسترخاء, وألقى بجزعه الى الخلف ليلتصق ظهره بالمسند الخلفي, ثم عقد ذراعيه خلف رأسه وإبتسم راضياً وقد ولىَ عنه شعور الغثيان.. كان غالباً ما يكون فى أسعد حالاته حينما يغشاه هذا الحال من السكر الذى يحلق به دوماً فى آفاق لم يحلم بالإقتراب منها فى حالته الطبيعية - إن شئنا أن نسميها هكذا.. وهنا تذكر منظر السماء الخلاب فرفع رأسه ليستقر بباطن كفه .. ونظرلأعلى وبدى وميض النجوم أكثر سحرأً عما قبل.. وجاءته بغتة أصوات البيانو وموسيقى " الجاز" الرقيقة التى كانت ترافقه قبل قليل فى الحانة..
ومازال يتطلع لأعلى حتى بدت النجوم فجأة أكثر لمعاناً, وبدأت تتراقص أمام عينيه على إيقاع الموسيقى بإنسابية وتماوج عجيب سُر له.. وقاوم فكرة أن تكون تلك خيالات, إذ أن المنظر كان أمام عينيه واقعاً لا شك فيه.. وضحك ملء فاه.. أطلق "أحمد" لعينيه العنان, لتراقب كل نجم بمعزل عن باقى النجوم.. ولشدة دهشته كان كل نجم على حدة يكبر أو يصغر إذا ما إحتباه بإهتمامه أو مر به.. بل وأكثر من هذا, مر صوبه نجم شديد البريق صار يدنو منه ويزداد, وتتغير هيئته حتى صار كوجه إنسان.. و لم يصدق حين بات كشبه صورة أمه, رآها للحظة وجيزة ثم أدارت له وجهها وغاب النجم.. وشعر بغصة فى حلقه حتى تجلــّى له وجه أبيه, الذى بدى خال من أى تعبير ومضى أيضاً.. ثم أطل وجه الحبيبة.. رانته بهيام لوهلة ثم سرعان ما رمقته بإحتقار, وولت غير عابئة .. وشعر "أحمد" بتعب يعتريه, ونعاس يغلب عليه, فإستسلم له للحظات..
وأفاق "أحمد حمزة" من نومه ليجد نفسه فى أحسن الحالات, وقد فارقته كل آثار الثمل . فإنتفض واقفـًا وسار لبضع خطوات فوجئ بإستقامتها.. لا أثر للترنح أو إختلال الوزن! ونظر لأعلى و تعجب.. فلم يرى نجمـًا واحدًا ينير السماء, ولا سحابًا يمكن أن يكون خافيها! ماذا حدث؟ أين ذهب الجميع؟ شيئ حقٌ مريب! وفى نظره لأعلى, لم يلمح تحت قدميه فتحة بالوعة المجارى غير المغطاة, فهوى بها! ولكن لشدة دهشته لم يكترث أو يهتز, بل ولم يسقط بالسرعة المتوقعة.. بل وجد نفسه يتهاوى ببطئ ملحوظ فى حفرة شديدة الظلام وكانها ملآنه بماء, أو بمادة سحرية تحول بينه و بين السقوط الى القاع.. ولكنه مازال ينزلق دون أن يميز ما حوله من شدة الظلام.. مرت دهور به وهو يهـِوى, ثم لاحت له أطياف لأناس يعرفهم حق المعرفة ولكن, ياللعجب! يبدون وكأنهم لا يعرفوه! فصرخ مناديـًا بهم لعل أحد يمد له ذراع المعونة, ولكن دون جدوى.. فقد إنشغل الكل عنه بأمر ما بدى غامضًا له.. وتساءل هو متى يصل الى نهاية المطاف, وماذا سيكون مصيره عندئذ..
تذكر "أحمد حمزة" ولأول مرة زوجته وأولاده, وإنتابه شعور جارف بأنه لا يعرفهم على وجه اليقين.. أجل يستطيع تمييزهم فى طريق الحياة, ولكن فى هذا الظلام البيِّن ألم يلمح طيف أحدهم على الأقل؟ أم أنهم عبروه دون أن يدركهم.. أو دون أن يدركوه؟ ..ثم ما معنى كل هذا يا رب؟ .. يا رب؟ .. يا الله؟ .. أين أنت من كل ذلك ؟ .. وما بالى لا أشعر بوجودك؟ .. لا بعطف العطوف ولا بجبروت الجبار ولا حتى بإنتقام المنتقم؟ .. أين أنت منى؟ .. بل وأين أنا الليلة منك؟ .. ولم يسمع جوابًا.. فإستمر فى الهبوط..
وأدرك لحظتها أنه هو منقذه الوحيد, وأن من يستحق أن ينتشله من هذا السقوط المتناهى هو ذاته.. لأنه وحده سيربح عند النجاة, وعليه وحده سوف تقع عاقبة الفشل, إذا ما أدركته النهاية.. فبدأ على الفور يعمل حتى ينقذ ما يمكن إنقاذه.. أول الأمر مد ذراعيه, لعله يمسك بجدار أو حدود لتلك الحفرة اللعينة بلا جدوى.. وعندئذ من فرط اليأس, بدأ يخَبِط يديه بحركة دؤوبة من أعلى لأسفل وكأنه طائر يطير, ويا للغرابة! نجح أولا فى إيقاف الهبوط قبل أن يلتقى بنهايته المحتومة, بل ونجح أيضًا بعدها فى أن يرتفع تدريجيًا.. ورغم بطئ الصعود, ووهن الذراعين, وتفشى الظلام, إستمر "أحمد حمزة" يخبط بذراعيه حتى ترائى له بصيص من النور قادم من أعلى.. فتبعه..
ومازال "أحمد حمزة" يرفرف بذراعيه حتى شب من جديد فوق وجه المعمورة, ونظر الى أعلى فبدت له السماء مكللة بألمع نجوم رأتها عيناه, وتمتم قائلاً: "سبحانك يا رب, يا أرحم الراحمين".. وقام من فوق المقعد عند موقف الأتوبيس, ومشى مترنحـًا..
الحِجَارة السبعة
إنكفأ الدكتور "عزمى يسَّى" فوق فم المريض المفتوح, وأخذ يعمل بالآلة الدائرية الرأس فى داخله, محدثًا أزيزًا كريهًا, ومحطمًا فى طريقه جدار الضرس الفاسد, ومتغلغلاً رويدًا رويدًا الى أعماقه وكأنه ما يزال يبحث عن الحقيقة المفقودة.. لم تعد رأسه تتحمل تتابع الأفكار المتزاحمة منذ يوم أمس حين بدأ كل هذا.. تأوه المريض, فقال له "مَضمَض".. وملأ الفجوة -التى صنعها بحفـَّارته- بحشو مبدئى وقال " نكَمِّل بُكرة".. ودلف الى غرفته وأغلق الباب ثم إتجه يمينًا ناحية شماعة الملابس و خلع المعطف الأبيض ورَشقه فوقها بلا إكتراث, ثم دار وإتجه نحو المكتب وألقى بجسده نحو الكرسى كمن خارت قواه على نحو مفاجئ, فلم تعد ساقاه قادرتين على حمله.. ورفع يده نحو رابطة عنقه جاذبًا إياها يمنة ويسرة وكأنه يقتلعها عنه, ثم حل زرار قميصه الأعلى فبدأ يشعر بإرتياح.. وهَمَّ بإلقاء جزعه للخلف لينغرس فى رحب مقعده الوثير حين دق الباب وإنفتح ليطل رأس سكرتيرته متسائلاً "هل تريد شىء آخر قبل أن أذهب؟" فهز رأسه قاطبًا.. وإنسحب الرأس وراء الباب وعادت السكينة.. ولكن عاودته فورًا "أنا وطنى مش من هنا.. أنا لىَّ وطن تانى" كلمات الترنيمة التى ما تزال تحاصره بأنغامها الرتيبة, وتملأه بشعور غير مريح, ولكن -على أى حال- غير محدد الملامح, منذ سمعها لأول مرة يوم أمس فى الكنيسة..
لم يكن يدرى يقينًا سبب هذا الشعور الذى إعتراه.. كان فعلاً منهوك القوى تمامًا وكأنه أكمل للتو عدو أكثر من ألف ميل, أو تسلق قمة أعلى الجبال, بل وجذب معه أيضًا, فوق كل ذلك, زوجته وطفلته الوحيدة, المتعلقتين بأطراف أصابعه, يرفعهما معه نحو القمة المنشودة.. عندها لاحت له صورة إبنته "أمل", ففتح الدرج الأعلى لمكتبه - بلهفة العاشق- وقـلـَّب فى محتوياته بسرعة حتى إنتشل منه صورتها, ونظرها بتساؤل لعلها تعلمه عن سبب خَوَران قواه الى هذا الحد.. وكأنها العدوى, إنتقلت الإبتسامة البريئة من الصورة لترتسم فوق وجهه, ولمَّا همَّ بإرجاعها, إذا بأصابعه تعبث داخل أعماق الدرج وتحتضن السبعة حَجَرات النائمة بداخله منذ بدأ العمل فى هذه العيادة لسنين طوال.. ودارت بمخيلته صورة لوردة زاهرة, زاهية, نابتة فى أرض جافة مقحلة تتطلع الى غوث من السماء..
وضع الدكتور"عزمى يسَّى" مجموعة الحجارة أمامه على المكتب, وجعل يتحسسها بأنامله.. كلها ملساء, جامدة, صامتة, ومستسلمة أبدًا لمشيئته.. من يوم إلتقطها الواحدة تلو الأخرى, من كل مكان هاجر إليه .. "عجيبٌ هو أمرك أيتها الأحجار الناعمة الصلدة, الباردة المشعة بالدفئ فى قلبى, الصامتة ودومًا تصرخين بالذكريات, المستسلمة المتمردة أبدًا.. تُرى هل تستمدين منى الحياة –كما أريد أنا أن أعتقد- أم أستمدها أنا منك..؟" وأخذ يبنى بالحَجَرات -التى لاتزيد كل منها عن بوصة أو إثنتين- تلاً صغيرًا أخذ يعلو رويدًا حتى وضع فوق قمته آخر حجر..
. . .
منذ صباه كان "عزمى يسَّى" مغرمًا بالحجارة الصغيرة, يلملمها فى أوقات اللعب عند الخليج بمدينة السويس, حيث نشأ, ويجلس إليها على الشاطئ وحيدًا يخاطبها وتخاطبه, بصوت الأخ, إذا ما إنشغل عنه الإخوة, أو الصديق المقَرَّب إن غاب الأصدقاء, بل وكانت هى حتى العدو القابع على الجانب الآخر من البحر, المتجسم بين يديه فى شكل مجموعة أحجار هشة ومتفرقة, يهاجمها بحجره المفضَّل فيسحقها.. وجاءت رياح تعصف ذات يوم فوق صفحة المياه, فنكَّلت ببيتهم الأمواج, وأصمَّ أذنيه الرقيقتين دوىُّ قنبلات الحرب, وأزيز طائراتها أدخل الرعب فى صميم كيانه لأول مرَّة.. فدُفِع بهم دفعًا الى القاهرة هربًا من ويلاتها, مع باقى السوايسة وأهل القنال, وتحسس فى الطريق حَجَرته يتبادلان رسائل الطمان..
. . .
فى وطنه الجديد, بحى "الظاهر" حيث بيت خاله, عصفت به رياح جديدة لم يكن يألفها, وأدرك لأول مرة معنى الغُربة.. ذاق طعمها فى إزدراء أقرانه به فى مدرسته الجديدة, لغرابة لكنَتِه حينًا, ولإختلاف التجارب والذكريات أحيانًا, بل وذاقه حتى فى العطف الزائد-المفتعل أحيانًا- من قِبل زوجة خاله هنا وهناك.. وإلتقتَ يومًا حَجَرًا كان قد تبعه من أمام باب المدرسة الى البيت.. يركله بسن حذائِه المترب, فيجذبه الحَجَر اليه, فيتبعه ليركله ثانية وثلاث و.. ويتبعه حتى توطدت بينهما العلاقة فسكن اليه, وإصطحبه الى دُرجه الخاص فى الدولاب فى بيت خاله.. وفى سكون الليل أنِس إليه, وشكَى له غربته الجديدة, فنصحه الأخير بالنبوغ فى لعبة "السبع طوبات" وفعلا إكتسب من وراءها, مع الأيام, شهرة بين أقرانه فى الشارع والمدرسة أنسَتهم غرابته, بل وأصبح محورإهتمامهم, لسرعته فى العَدْو وقدرته على المراوغة وثباته عندما يُقيم برج الحجارة السبعة فينتصر الفريق.. وهكذا إجتاز"عزمى يسَّى" أول غربة فى دنياه الصغيرة, ولكن هيهات أن تكون تلك آخر تجاربه مع الإغتراب..
. . .
بين يوم وليلة, مرضت أمه.. شحب لونها, وذبلت نضَارتها, وتشققت أرضها وجفًَت, بلا مقدمات.. وعرفَت قدماه مع أسرته الصغيرة طريق كنيسة العذراء مريم المعلقة, ودير القديس مارجرجس بمصر القديمة, وملأت رائحة البخور أيامه, وأصوات التضرع الممزوج بالأنين لياليه.. حتى ذلك اليوم, لمَّا شعر بحركة مريبة تسرى فى جنبات المنزل, وهمست لهم زوجة خاله أن يرتدوا ملابسهم بسرعة إستعدادًا لزيارة أختها فى "العمرانية".. وتعجب لمسحة السواد القاتمة التى غلفَت بكل الأشياء, ولمَّا عادوا لم يجِد أمه بالمنزل, ولم يجدها أبدًا بعد ذلك اليوم فبَكى.. وشَكَى هَمه لحَجَراته فلاطَفتاه وخفَفَتا عنه الأوجاع.. وإستمر تفوقه فى "السبع طوبات" ومضَت الأيام بطيئة متكررة, ولشدة تشابهها حسب الزمن متوقفًا لديه..
. . .
دعاهم والده فى يوم جمعة دافئ فى إحدى شهور الشتاء, لقضاء يوم العطلة فى حديقة الحيوان.. أدرك أن فى الأمر أمرٌ, فقط لأنه لم يكن قد فعلها قبلا, ولكن لم يَجُـل بخاطره أن يلتقوا هناك بعروس جديدة لأبيه.. وخلال بضعة أسابيع إنتقل الجميع من "الظاهر" الى "شبرا الخيمة" فى شقة الزوجية الجديدة.. إفتقد هناك أمه أكثر, ربما لبُعده عن خاله الذى كان دومًا يذكره بها.. ولكن أصبح فى مقدوره الآن أن يتمشـَّى ليصل الى كورنيش النيل, وبوثبة جانبية سريعة كان يلتقى مع الحجر والطين والمياه, وعادت أيام "السويس" فجأة الى الحياة ودارت عجَلات الزمن به من جديد.. وإلتقـَى يومًا بالحجَرة الثالثة.. وكانت مغروسة فى الطمىّ وحدها ما عدا قمتها التى كان موج النيل الرقيق يحتضنها تباعًا, ربما منذ شقت المياه مجراها فى هذه البقعة, وحتى اللحظة التى إلتقتها هو فيها, وزلق بها الى جيب سرواله.. لولا غياب أمه وخاله عن حياته, لِما تميَّزعنده يومٌ واحدٌ من أيام "الظاهر".. وكان على أى حال أكبر الآن من أن يستمد كينونته فى دنياه من مجرد تفوقه فى "السبع طوبات".. لذا رحَّب برحلة الهجرة هذه المرَّة بالذات..
. . .
شب"عزمى يسَّى" ميَّال الى الوحدة, يقضى الأوقات بين الكتب والمدرسة وبين مجلسه المفضَّل على شاطئ النيل مع حَجَراته الثلاث.. ونبغ فى دراسته, ولكنه تلامس ذات يوم مع أطراف غُربة جديدة مستترة تتسلل الى أعماق كيانه.. لم يكن فى أول الأمر بقادر على تحديد مصدرها, ولكن بمرور الوقت, وبتراكم التجارب, إزدادت المعالم فى الوضوح والأبعاد فى التبيُّن.. لم يستحق يومًا أن يكون أول الفصل ـ برغم تفوقه الواضح- ولم يقع الإختيار عليه فى فريق ألعاب القوى بنادى الشباب -بالرغم من سرعة عدوه- ولمَّا تطوَّع للإلتحاق بنادى اللغة العربية, لشدة ولعه بالقراءة, صرفه رئيس النادى ضاحكـًا "عزمى يسَّى فى نادى اللغة العربية؟ ما تمسكوا أحسن جامعة الأزهر يا سي يسَّى".. ولم يفهم النكتة فى حينها, ولكنه تعَجب من صيغة الجمع فى كلامه.. وفى خلوته مع حَجَراته أوضحوا له سر الغربة المحاصرة لمشاعره التى لم يكن يدرك أبعادها بعد.. وزاد شعوره المتنامي بالوحدة وبالإغتراب, من رغبته فى التفوق والتميّز بعد أن شعر بمهمته تصبح أكثر مشقة وصعوبة, وصمم على الفكاك..
. . .
بعد تخرجه من كلية طب الأسنان أدرك"عزمى يسَّى" إنعدام الأمل في تعيينه بالقاهرة, فطلب "العريش" (بيدى لا بيد عمرو) بالإضافة لولعه القديم بالبحر والوحدة, وهناك وعلى الشاطئ تلاقى بأجمل حَجَراته قاطبة.. كانت من الأحجار الترسيبية التي إمتزج فيها الوردى بالأبيض بجمال فائض جذبه اليها جذبًا, وحلم على شاطئ "العريش" بالمدينة الفاضلة وبناها فوق رمالها.. وتدافعت الأمواج على الشاطئ, وذابت معالم المدينة بين تيارات المياه المتدافعة.. ولم يبقى طويلا هناك, إذ أدرك أن معركته سوف تخوض به الى شواطئ جديدة لم يطرقها بعد..
. . .
وفوق أول سفينة أبحر شمالا الى "إنجلترا" بحثـًا عن ذاته وعن مدينته الفاضله.. هناك قابل "عزمى يسَّى" العمل.. والحب.. والإنسانية.. وجهًا لوجه لأول مرة, وإنسلخت روحه لديهم بكل ما أوتيت من قوة, ومن حرمان متراكم بطول السنين.. وشعر بكينونته تتبلور, ولكنه أدرك مع الوقت أن المدينة الفاضلة قابعة فى أعماق كتب الفلسفة والتاريخ, عاجزة أن تترك دفئ صفحات الكتب الى مجابهة برودة الأيام.. وعلى شاطئ "نهر التيمز" إلتقط صخرة رمادية قوية صلدة حادة الأطراف محددة الجنبات, لتحَدثه عن طباع وعوائد أهل الشمال.. وتعلم كثيرًا من حَجَرته الجديدة, وجمعها ببقية الحَجَرات فتوافقوا, وخاطبهم طويلا فى ليالى لندن المثلجة الوحيدة, ومنهم كلهم عرف بأن الحياة سائرة به دومًا الى الأمام.. وأدرك أن طريق المستقبل يقوده غربًا, نحو العمل الجاد المدعوم بحياة رغدة لم يحلم أن يرتأيها على هذا الجانب من الأطلسى..
. . .
وعلى ضفاف نهر"تشارلز" ببوسطن لحقت الحَجَرة السادسة بقريناتها, ووجد "عزمى يسَّى" نفسه طالبًا بكلية طب الأسنان من جديد. وبإيعاز من حَجَراته أكمل سنوات الكلية بنجاح, وسعد بكينونته الأمريكية الجديدة, وأصبح طبيبا مكافئا لأى طبيب أمريكى آخر.. وإعتراه تدريجيـَّا الإحساس بالأمان الذى إفتقده منذ أيام الطفولة الأولى, أيام السويس والبحر والإنطلاق والعفوية والحَجَرة الأولى..
وإنتقى حَجَرته السابعة من فوق ضفاف خليج "الشيسابيك" بولاية ميريلاند حيث استقرت به أخيرًا سفينة الأيام.. كانت حَجَرة هرمية الشكل, مدببة الأطراف, ملساء, إمتزج خضرة لونها - المشير الى أصلها النباتى- باللون البنى المائل للسواد كجزع الشجر العتيق, المشبع بهطول الأمطار, سكنت دومًا فوق كل الحَجَرات, كلما شرع فى تكويمها, لإستقامة قاعدتها وشموخ قمتها.. هكذا إستقر "عزمى يسَّى" بعد أن شعر بالأمان (بتاع زمان) فى وطنه الجديد, وتزوج وجاءته "أمل" بفرحتها المتدفقة كأمواج خليج السويس حافزًا له على العمل, وجنى الثمار, ومد الجذور, وأنغرست قدماه فى الأرض من جديد..
ولم تؤرقه الأيام بعدها, بقدر ما أزعجته هذه الكلمات "أنا وطنى مش من هنا.. أنا لىَّ وطن تانى" كلمات الترنيمة التى ما تزال تحاصره بأنغامها الرتيبة, وتملأه بشعور غير مريح...
خطابات الكترونية
لم يعد يدهشه شيئًا منذ أن ترك وراءه ذكرياته وأمسه وتتطلع الى الغد بعيون ملؤها الأمل... كان آخر ما يمكن أن يتصوره أن يلقَب يومًا بالمهاجر.. لماذا؟ .. لا يدرى على وجه الدقة, ولكنه كان قد عقد العزم منذ زمن طويل أن يصارع الأمواج مهما كانت عاتية.. وتحمّل الجلوس بمفرده فى حوش المدرسة وقت حصة الدين, والمذاكرة والذهاب للإمتحان يوم العيد, وإندهش لغلظة القلوب.. وإبتلع قول صديق له أنه إنسان رائع (لولا موضوع الدين ده).. ونسى تلميحات أقرانه عما يقترفه القساوسة بالنساء عند أخذ إعترافاتهن, وإندهش لغلظة النفوس.. وضحك عند سؤاله عن إسمه الثلاثى بل والرباعى فى الإمتحان الشفوى لمادة الجراحة العامة بكلية الطب, وتذمر قليلا عند حصوله على تقدير "جيد" عند إعلان النتيجة, وإندهش لغلظة العقول.. ولكنه رفض دومًا أن يتنازل عن مكانه فى الساحة.. ولم يكترث لتعيين أبناء الأساتذة معيدين بالكلية, ولا لإستشراء الرشوة بين الناس لإنجاز أى عمل.. وذهب الزعيم الخالد وجاء الرئيس المؤمن, وساءت الأحوال أكثر.. وإنقلب حياء التلميحات الى وقاحة التصريح.. ولكنه لم يأبه بها.. بل إستمر يخطو فى الطريق وإن بدا وعِرًا في أحيان كثيرة.. ولكنه أدرك يومًا أن طريقه مسدود, وأن لا مناص من الفشل, أوالتقوقع, فأبَى.. ورحل.. ونظر أمامه بعيونه الطفولية الى غد واعد.. مرت الأعوام متعاقبة, وتزوج وأنجب وحقق الكثير من طموحاته.. ثم تقابل ذات يوم, بمحض الصدفة, بصديقه القديم, قدم المدرسة الإبتدائية, وتلاقيا سويًا على صفحات أثيرية غير ملموسة, عبر الإنترنت, فكان اللقاء أقرب للخيال.. وإنتابته الدهشة ثانية .. فكانت تلك إحدى المحاورات.. عزيزى رمسيس.. انت فين ياصديقي العزيز .. أرجو أن تكون في أسعد حال أنت وأسرتك الكريمة .. أرجو أن أسمع منك قريبا .. لدى سؤال أريدك أن تجيب عليه .. تخيل مثلا لو جاءت حكومة محترمة منتخبة في مصر .. ثم قامت بدعوة كل المصريين المهاجرين في الخارج .. على أساس أن تستفيد مصر بخبرتهم .. على شرط توفيرهم بكل الظروف الملائمة .. يعني كل واحد فيهم يأخذ نفس المرتب اللي بياخده في أمريكا, ويخصص له بيت مثل اللى كان عايش فيه .. اذا حدث هذا .. هل تعتقد أن المصريين المهاجرين يقبلوا يرجعوا .. وأنت نفسك هل ترجع .. أرجو الاجابة لأنها تهمني جدا .. حيث أنني أبحث عن فهم أفكار المهاجرين المصريين, منذ أن كنت في أمريكا .. أشكرك وما تقطعش الجوابات ياصديقي القديم الجديد .. عصام عزيزى عصام كان سؤالك لى فى غاية الأهمية و الصعوبه فى آن واحد.. مما جعلنى أطرحه على زوجتى و أولادى قبل أن أشرع فى الاجابه عليه...أولا دعنى أقدم لك عائلتى المصونه.. زوجتى الأمريكية وأولادى الإثنين لا يتحدثون العربيه , و إن كانوا يفهمونها شويه.. و لكن الأهم هو أنهم لا يفهمون اللغات الغريبة الأخرى المكتسبه من حياتنا فى المجتمع المصرى المعاصر.. ( لغة الفهلوة, والظلم, والكبت, والتعصب, والرشوه, والمحسوبيه, والتواكل, الخ..) فكان رد زوجتى "انا قادرة على تعلم العربيه فى ثلاث شهور, ولكن الإرهاب الدينى".. وقالت إبنتى بتلقائية إنها متعلقة بصديقاتها فى المدرسه, و إنها تفضلهن عن أقرانهن فى مصرلأنهن لا يبكين لنوال ما يريدن كما تفعل المصريات الصغيرات.. أما إبنى الكبير فألقى بنظرة عبر زجاج النافذة حيث أكوام الثلج المتراكم.. و أطرق لحظة وقال "لأ مصر مكان جميل للسياحة ولكنى أفضل الحياة هنا.."أما عن رأيى ف ده موضوع تانى.. رمسيس عزيزى عصاماليوم السبت, و بعد ما قريت البريد قررت أقعد أكتب لك .. عن الغربه و الهجره والعوده... الحقيقه سؤالك مهم جدا والاجابه عليه مش سهله... ولذا طرحته على عدد من أصدقائى المهاجرين من باب إستطلاع الرأى, وكان محوًرا للعديد من المناقشات فى الايام القليله الماضية..أولا يا صديقى كان هناك إجماع على أن المسألة الماديه دى عامل غير مؤثر على قرار البقاء أو العوده.. وثانيا إختلفت درجات التشاؤم فى إمكانية الاصلاح, وبالتالى العوده, بين الأشخاص بغير إعتبار للسن أو الدين أو مدة الهجرة..أحب أن أقول لك أنى أعتقد أن هناك نوعان من المهاجرين الى أمريكا(وكندا).. النوع الأول -وهوالغالب- يعيش فى المهجر و لكن عينيه وقلبه دايما باصين للوراء ناحية مصر.. وده دايما بيزور مصر فى أجازاته و بياكل فول وباميه و قلقاس كلما سنحت الفرصة .. وده طبعا نفسه يعيش فى مصر ولكن... لكنه اتعود على مستوى معين من الحريه, المواطنه, سيادة القانون, احترام حقوق الانسان, الفصل التام بين الدين والدوله, والديموقراطيه, و توالى الحكام والحكومات, وإعتياد رؤية الرئيس السابق بل والأسبق عايشين -أى والله- ولا يحاول أحد اغتيالهم أو اعتقالهم أو حتى نفيهم.. كل هذا فى إطار من الولع بالتعددية.. بمعنى أنك فرخه بكشك لو رأيك أو فكرك أو منتجك مختلف.. أما النوع الثانى من المهاجرين -وهم الأقلية- فهو المهاجر اللى طفشوه من مصر بسبب الدين والمله أو الآراء والمعتقادات.. و ده غالبا ما ينخرط تماما فى المجتمع ويغوص كلية في لجته, ولا ينظر أبدا للوراء..أما رأيى أنا فده بقى موضوع تانى... رمسيس رمسيس..ازيك .. أنا سعيد جدا جدا انك تجاوبت مع سؤالي عن المهاجرين ولو عندك أى آراء أخرى عن هذا الموضوع اكتبهالي.. لأني زى ما قلتلك مشغول به من ساعة ما كنت باتعلم في أمريكا وطبعا قابلت مصريين وعرب كتير وسألتهم السؤال ده وعموما أنا توصلت لعدة افتراضات أحب أناقشك فيها : المصريون نوعان كما قلت واحد عاوز يحتفظ بمصر داخله وينقلها لأبنائه, وثاني عاوز يلغي مصر خالص ويبقى أمريكاني ـ تمام زى ما قلت ـ بس أعتقد ان اللي يحاول يلغي مصر مش ح يقدر وح يبقى تعيس.. لاحظت أن احساس المصريين بالغربة وحنينهم لبلادهم أكبر بكثير من احساس الشوام مثلا.. وأنا كان لي أصدقاء لبنانيين وما كانش عندهم مشكلة خالص.. وشفت مصريين ناجحين جدا وأثرياء جدا, لكن في النهاية لديهم شيء مفقود (كما يقولون).. وأحيانا ما قابلت مصريين يهاجمون مصر بضراوة وشراسة ويقولون أنها بلد مش نافعة في حاجة أبدا .. وأعتقد يا رمسيس أن هذا الهجوم سببه داخليا محاولة للدفاع عن قرارهم بالهجرة .. يعني عاوزين يأكدوا لنفسهم انه حيث ان مصر مش نافعة يبقى هم صح, ولو اعترفوا بأن مصر فيها امكانية إصلاح يبقى معنى كده انهم غلطوا في الهجرة.. وأغرب ما لاحظت في أمريكا تنامي التيار الاسلامي المتعصب بين أولاد المهاجرين واندهشت جدا وأعتقد أن هذا بمثابة رد فعل غير صحي للصدمة أو التشتت الحضاري الذي يعيش فيه بعض المهاجرين.. ما رأيك ياعزيزى رمسيس في هذا الكلام؟ .. تحياتي .. عصام عزيزى عصاممرة أخرى كل سنه وإنت والأسره طيبين و بخير.. نرجع تانى لموضوع الهجره والمهاجرين.. أحب أولا أن أتفق معاك حول أنواع المهاجرين, ولكن للأسف سأختلف معك فى معظم الأطروحات الأخرى.. أولا موضوع "اللي يحاول يلغي مصر مش ح يقدر وح يبقى تعيس" فدى إفتراضيه أعتقد محدوده فى حالات معينه, لأن فى نظرى الشخص إللى بيهاجر بعد إضطهاد أو عكننه, بيبقى فى العاده مشبع بكم من النقمه والقرف تسهل إندماجه الكلى فى المجتمع الجديد و خصوصا إنه بيلاقى المجتمع ده بيعوضه عن كل أسباب كراهيته الأولى.. وده بيجعله من السهل جدا يرمى رباطاته مع مصر ورا ضهره.. وأنا شخصيا بأجد صعوبه فى التعامل مع هذه النوعيه من المهاجرين لأنهم بيرفضوا التواصل مع كل شخص أو فكر بيصحى المواجع القديمه.. ولكن دول كما قلت أقلية.. أماعن "لاحظت أن احساس المصريين بالغربة وحنينهم لبلادهم أكبر بكثير من احساس الشوام مثلا" فأعتقد ان ده بيرجع لطبيعة المصرى الفلاح المربوط بالأرض والوطن منذ الاف السنين.. بالمقارنه بالتاجر الشامى اللى بيجرى لأدغال أفريقيا, وغابات الأمازون وسهول ووديان الأمريكتين وراء القرش والتجاره بدون وازع حقيقى يدفعه إلى حتمية ترك وطنه الأصلى.. ( وده على فكره بينطبق على الفلسطينيين واللى -فى رأيى- أحد أهم أسباب مشكلتهم القومية).. المهم أن ده لا يعبر بالضرورة عن الإحساس الوطنى و إنما إختلاف فى طريقة العيشه والتعبيرعن الشعور القومى.. بس مثلا لو حاولت (تنكش) اللبنانى أو السورى بشوية نقد لأحوال بلادهم تلاقى أسود و ضباع هاجمه تدافع عن الديموقراطيه اللبنانيه و القوميه البعثيه السوريه بالمقارنه بالخيانه والتخلف المصرى..الخ.. وأجدهم مواظبون على زيارة بلادهم ودعمها ربما أكثر من المصريين.. ناخد بقى موضوع "قابلت مصريين يهاجمون مصر بضراوة وشراسة ويقولون أنها بلد مش نافعة في حاجة أبدا".. ده فى رأيي نتاج حاجتين.. أولا الحب الشديد لمصر ـ الوطن الأم- وده إحساس بيجمع كل المهاجرين, من الجيل الأول بالذات, سواء كان الأصل مصرى أو إيطالى أو كورى.. مع الحسرة على الحاله البائسه اللى وصلت لها البلد.. ثانيا العيشه فى مجتمع حر و ديموقراطى بيدفعك دفع لإنتقاد الأحوال المعوجه فى بلد الهجرة الجديدة, وطبعا بالأحرى الوطن الأم... يعنى مش نقد للنقد ولا محاولة تبرير الفشل, و إنما عن إيمان راسخ بإمكانية التغيير إذا زعقت وقلت لأ...و أخيرا موضوع "تنامي التيار الاسلامي المتعصب بين أولاد المهاجرين" أنا أعتقد أن ده إمتداد لتنامى التيار الإسلامى الوهابى فى الدول العربيه ككل و فى الغرب.. وهذا حصاد الإستثمار السعودى منذ السبعينات, بدعم من مصر السادات, واللى راح فى رجليه السادات نفسه و فرج فوده و نجيب محفوظ (تقريبا توقف عن الكتابه بعد محاولة إغتياله) وآخرين, ثم أمريكا و الأحداث المروعه فى سبتمبر والان فى المغرب وفى السعودية نفسها.. يعنى مش موضوع محصور فى أولاد المهاجرين, والله أعلم ح يودى لفين...وجعت لك دماغك.. و يستمر التواصل .. رمسيس رمسيس..أشكرك يا صديقي .. العيد بكره وكل سنة وأنت طيب وعيد سعيد عليك .. وسوف أستأنف النقاش الجميل حول نفسية المهاجر .. عيد سعيد يا رمسيس وتحياتي للأسرة والأولاد .. عصام
......
نفسية المهاجر!!..
ماذا يقول له عن نفسية المهاجر.. لقد كان دائمًا دمث القول, ولم يذكر مطلقًا انه انطلق مصرحًا بما يجيش بصدره, بلا تحفظات وبلا رتوش, حتى فى ظل حياته فى المهجر. أيمكن أن يتغير كل هذا الآن؟ .. محتمل..
وهكذا يستمر التواصل عن ماض ولى, وحاضر مثير للخواطر, وغد فى علم الغيب..
شنب الأستاذ عبد السيِّد
وقف الأستاذ "عبد السيد داود" امام المرآة المربعه الصغيرة التى تعتلى الحوض الأبيض الكالح فى دورة المياة الملتحقه بالشقة المتواضعة التي إستأجرها بالأمس بمدينة "كانساس" في جنوب وسط الولايات المتحدة.. مدينة ككل المدن التي زارها, يجول بها الخلق في الطرقات والشوارع بين البنايات والحوانيت, يتسكعون حينـًا, ويلهجون أحيانـًا, ولكنه لا يعرفهم.. ولا يعرفه هنا أحدٌ.. وضع "عبد السيد" يديه مستقيمتين على حافتى الحوض و جرت فى جسده قشعريره لمَّا أحس ببرودته تسرى عبر أنامله, ولكنه ظل ممسكاً به بإصراره المعهود.. ومال بجزعه إلى الأمام مقرباً رأسه ببطئ نحو المرآة يتقدمه أنفه المقوص حتى كاد أن يفطسه على سطحها الزجاجى البارد.. ثم أدار رأسه ناحية اليمين ثم ناحية اليسار, وعيناه مثبتتان إلى شاربه الكث الذى يمتد كالستار تحت أنفه ليخبئ فمه تماماً فى حالة الصمت, ثم ينفرج بإعجاز عند شروعه فى الكلام, و كأن الستار قد رفع ليظهر تباعا أبطال المسرحية التى يؤلفها و يخرجها ويؤدى أدوارها كلها ببراعة يحسدها عليه أقرانه منذ أيام الشباب الأولى..
كانت رواياته كلها من النوع الكلاسيكى حيث الأبطال المثاليون دائماً ينتصرون للحق ولا يظهرون أى نزعة قد توحى بأى ضعف ما.. وهكذا أيضاً كان الأستاذ "عبد السيد داود" ضارباً فى المثالية, منذ أيام المدرسة الثانوية فى حى "شبرا" العريق, وإلى جامعة القاهرة فى كلية الحقوق, ثم فى عمله فى مكتب المحامى المشهور الأستاذ "سينوت عوض الله", الذى إلتحق به بمجرد تخرجه وحتى يوم هجرته للولايات المتحدة فى أوائل الثمانينيات.. حالفه النجاح طول الطريق لمغالاته فى الإلتزام بمثاليته.. كان دائماً متوارياً خلف هذا الشنب العظيم يقدم لعالمه الصغير من الأهل والأصدقاء أجمل وأنبل الأدوار الروائية, التى يتخللها المرح أحيانا, والسخرية والنقد اللاذع فى أحيان أخرى, ولكن دوماً فى إطار من الحق والفضيلة والمثل العليا.. لم يكن يسمح لمخلوق ما أن ينظر إلى ما وراء الشنب, بل ولا حتى سمح لنفسه أن يتساءل عما إذا كان سعيداً بأداء هذه الأدوار حتى النهاية...
لم يره أحدٌ أبداً ضعيفاً. وحتى فى أيام المرض كان ينزوى بعيداَ عن الأضواء حتى يزول الهم ويعود إلى عالمه فى تألقه المعهود.. وفى أمريكا إستمر الأستاذ "عبد السيد" فى أداء أدواره بإقتدار ولاسيما وسط جالية المصريين المهاجرين الذين سعوا إليه وألتفوا حول الأستاذ, أو بالمعنى الحقيقى حول شنب الأستاذ "عبد السيد داود", يستلهمون من رواياته ما يساعدهم على مجابهة التماشى مع مجتمعهم الجديد, و تعرَّفوا عنده بقواعد اللعبة الجديدة, وعند كل نهاية عرض, ينزل الستار, ويعصف بالمكان صوت تصفيق حاد وتصميم على لقاء آخر.. وبالطبع كان يواجَه أحياناً بجمهور مستاء من سطحية المعالجة الدرامية, أو من عتاقة الأفكار المطروحة, ولكنه كان بارعاً فى إتلقاط هذه الشرذمه مبكراً وعزلهم عن دائرته حتى لا يفسدوا بآرائهم الهدامه متعة الآخرين...
إستمر نجم "عبد السيد داود" فى التألق فى عالمه الجديد ولاسيما بعد إلتحاقه بالعمل فى سوق الأوراق المالية. وكان لإجتهاده ورغبته اللانهائية فى النجاح والشهرة أكبر الأثر فى إستمرار علو نجمه فى المجتمع بين الأقارب والأصدقاء, و فى "وال ستريت" على السواء.. و شنبه الكث مثل العلامة التجارية له فى وسط عالم الأعمال.. وكان لايزال يمارس هوايته المحبوبة فى عرض الروايات الكلاسيكية المدافعة دوماً عن الحق والفضيلة, حين تطرقت إلى أذنه طراطيش كلامية بين أقرانه عن إضطلاع الإدارة التى يعمل بها ببعض الممارسات المشبوهة فى التعامل بالسوق, كتسريب المعلومات عن أداء أسهم بعض المؤسسات الكبرى والبيع والشراء بطرق غير نظيفة.. ولكنه كان ينحى بهذه الأقاويل جانباً, بزعم إنشغاله الدَءوب بالتحضير لرواياته القادمة , وإستمر فى إبداعاته.. ولم يبالى حقيقة بسوء العاقبة, إذ أنه أدرك طول الطريق أن البطل دائمًا ينتصر فى النهاية.. ولكن طالت حبال الفساد فى العمل لتلتف برشاقة وخفة الثعبان المحنك حول عنق الإدارة بالمؤسسة حتى إختنقت.. وحتى هنا, وبالرغم من مهارته وطول ممارساته, لم يأبه حقًا للخطر المزعوم, لأنه أولاً وآخرًا يحيا فى دنياه المثالية...
ومازال شنب الأستاذ "عبد السيد داود" ينفرج ليعرض أروع الروايات, حتى ذلك اليوم اللعين.. كان جالسًا بمكتبه ذات صباح, عاقدًا زراعيه أمامه, وشنبه مسدلاً فوق فمه كعادته عند السكوت, عندما مزّق سكون النهار جلبة عظيمة, أيقظته حالا من أحلام يقظته.. وماكان إلا وسمع من يطرق باب مكتبه بقوة أزعجته حتى أنه للحظة لم يرى الرجل المهيب الواقف أمامه, يمد يده ببطاقة عمله, ويقدم نفسه كضابط بالمباحث الفيدرالية, و يطلب منه بكل أدب أن يتفضل ليصاحبه للإدلاء بأقواله فى الإدارة العامة.. وبعدها كان ماكان, وأفلست المؤسسة, ودخل السجن من دخل, وفقد هو وظيفته المرموقة بين يوم وليلة.. وبعد عناء إمتد لشهور, قبل بعدها بوظيفة أقل تتطلب منه السفر خارج "نيويورك".. وفى يوم الرحيل, وجد نفسه مدفوعًا بحزم أيقظه من نومه و جذبه من سريره جذباً ليضع الروب فوق كتفه, وبسرعة يبدل ملابس النوم, ويهرول لأسفل درجات السلم.. ووقف أمام باب البيت الأمامى, ومد يده ليفتح المزلاج ثم لوى بمقبض الباب البارد, وفتحه ليندفع الهواء المثلج عاصفاً به بغتة, وأدار "عبد السيد داود" عنقه إلى اليمين فوق كتفه ليجد زوجته شاخصة إليه من أعلى درجات السلم..
دارت كل هذه الخواطر المتلاحقة فى لحظات قليلة وهو واقف ينظر إل شنبه فى المرآه المربعة الصغيرة المعلقة فوق الحوض. ثم إستتدار ناحية النافذه الوحيدة فى الحمّام, وإقترب منها قليلاً, ثم جعل يجول بنظره عبر الزجاج الى الحوش الممتد حتى الشجيرات المصطفة بينه وبين السور الحجرى, المحيك بالمكان, الذى حجب عنه رؤية العالم وراءه, بإستثناء قامات بعض الأشجار المرتفعة.. أدرك عندها- ولأول مرة- غياب جمهرته المحببة, وأفول نجوميته, فشعر بإنقباض أعاده مرّة أخرى أمام المرآة, و سحب "عبد السيد" يده اليمنى ببطئ وداعبت أنامله شعيرات شنبه فى شبه أحضان الوداع ثم أمسك بموس الحلاقة وقال بصوت مسرحى سمعه هو, وأن لم يعيه وقتها, "مغلق لأجل غير مسمى.." ثم عمل يجوب بحافة الموس من جانب لآخر بين أنفه المقوّس وشفته العليا التي لم يكن قد رآها لأكثر من ثلاثين سنة.. ووجد نفسه يبتسم بفضول.
سامى كوهين
تدافع تلاميذ الصف الرابع الإبتدائى من باب الفصل , بعد أن إستبدلوا الزى المدرسى بالشورت والفانلة والجوارب البيضاء , وأحذية باتا الكاوتشية تزيـِّق فوق البلاط المغسول, تحت وطئة تعويجات أقدامهم الصغيرة التى تطير بهم من الدور الثانى الى الحوش الواسع المحاط بمبانى المدرسة العريقة بباب اللوق.. وفى وسط الفناء وقف أستاذ الألعاب بكرشه العظيم وسرواله الأسود الفضفاض الذى يحتضن, بالكاد, ذيل فانلة حمراء باهتة إنتفخت أمامه فلم يتمكن الحزام من إحتواءها كلها .. ولذا هربت مقدمتها من وطأة الإحتواء , وأطلت تحتها فانلته الداخلية البيضاء, فاضحة شرَهُه .. وتدلت فوق صدره الصفارة السحرية , التى تجمعهم وتفرقهم, وتثنيهم وتفردهم, وتطرحهم وتقيمهم, بل وتحذرهم حينـًا بنفخة مبتورة, وترهبهم أحيانـًا بصرخة ممتدة منزرة ببـِئس المصير..
وبان عند طرف الحوش أول بشائر القطيع مهرولين الى حيث يقف الأستاذ "جمال" تحت ظل الشجرة الوحيدة القائمة فى الوسط , تقيه بالكاد من لسعة شمس الظهيرة فى أوائل يونيو, فى وسَط المدينة الملتهب قيظـًا .. وعلت حولهم سحابة من التراب, إزدادت كلما زاد عددهم حتى صارت كالإعصار الذى إندفع بغير رحمة, يقترب منه بسرعة هائلة و يقتلع أمامه كل شىء, حتى إختبأ فزعـًا خلف صفارته ونفخ بكل قوته, فتوقف الإعصار فجأة عند قدميه.. وإصطف الصبية أمامه كجنود السرية يستعدون لتلقى أوامر القتال أو الموت.. ومرت فوقهم عيون الأستاذ جمال تتفحصهم ثم إبتسم وقال :
"بُكرة الماتش "الفاينال" بين فريقكم وفريق سنة سادسة وعايزكم تموتوا نفسكم عشان تكسبوه.. إوعوا تخافوا علشان ما هم أكبر منكم.. إنتوا تقدروا تغلبوهم وتغلبوا أبوهم.."
وهنا تعالت ضحكات بريئة ملأت جنبات الفناء..
كان عمادهم ثلاثى لا رد له, أو بلغتنا اليوم "ما لهوش حل".. فى حراسة المرمى "عصام عباس" بطوله وعرضه وولائه المتناهى, سدهم المنيع .. و"شريف ماهر" بسرعته الفائقة و مهارته فى المراوغة.. ولكن هدافهم اللأشهر كان "سامى كوهين". كان طفلا هادئا خجولا الى حد بعيد, قليل الكلام لدرجة أن الكثيرون لم يشعروا بوجوده بينهم, ولا حتى أدركوا أنه "ألدغ".. وكانت لدغته توحى لسامعيه في حصة اللغة الفرنسية بأنه يتحدثها كأهلها, في وسط التلاميذ المصريين بمدرسة الليسيه, فإعتقد بعضهم أنه ربما كان "خواجة".. كان نحيفـًا جدًا وباهت اللون لدرجة الشحب .. ولكنه فى كرة القدم كان الأستاذ, بتمويهاته وتمريراته وتصويباته المتقنة, فيحرز الأهداف التى جعلته يعوض مستواه الدراسى المتواضع.. وثبَّت أقدامه فصار كابتن الفريق و أملهم فى الفوز غدًا على سنه سادسه..
. . .
وقف "شريف ماهر" فى الفناء بعد الدراسة مع صديقه "ناصر فتحى" يتراكلان ثمرة الدوم فى إنتظار حضور والديهما .. قال ناصر أنهم مهزومون غدا لا محال.. ورمقه شريف غاضبا فجرى ناصر الذى كان متعمدًا أن يستفزُّه .. فما كان من شريف إلا وأمسك بالدومة وقذفه بها, ولكنه أخفق فى إصابته.. فإنحنى ورسم فوق تراب الفناء بحمار كبير وكتب فوقه ناصر.. ولم يكد يتم شريف من رسمه حتى أتاه "عم رزق" فراش المدرسة بمكنسته العملاقة ذات الأرجل القشية اليابسه المدببة متسائلا عما إذا كان أبوه علـَّمه أن يفعل ذلك.. ولما تعجب الطفل الصغير من كلام عم رزق, شارحًا له نقمته من مداعبة صديقه ناصر له, عمل رزق بمكنسته ماحيا كل أثر لرسمه بدون أن ينظر الى الطفل الواقف أمامه فاغرا فاه فى ذهول, وتساءل شريف يومها وما دخل أبيه بهذا كله؟ ..
. . .
تجمعوا فى الفناء فى صباح اليوم التالى يحيوا علم الجمهورية العربية المتحدة .. وتبادل الثلاثى البسمة المتفائلة بنصر قادم لا محال .. فهى مسألة وقت يمر حتى الساعة الثالثة, و بعد إنتهاء الحصص سوف يتيح لهم القدر فرصة العمر, ليرى الجميع أنهم أهل بالفوز بالرغم من كل التوقعات.. وإنصرف الجميع الى فصولهم وبدأت الحصة الأولى.. ودارت عقارب الساعة متلكئة أمام عيونهم الصغيرة المعلقة فوقها بإستعطاف أن تدور.. ومضى اليوم بطيئا متمهلا.. وفى منتصف اليوم حدث هرج فى الممر الخارجى بين الفصول.. أصوات ونداءات مبهمة تبلورت بإقتحام وكيلة المدرسة للفصل, طالبة من التلاميذ أن يجمعوا حاجياتهم بسرعة ويتوجهوا فورًا للحوش إستعدادًا للذهاب.. الى أين ؟ لا يهم .. فالفرحة تجتاحهم إجتياح الماء لأرض جفت عطشا.. ترتوى بنهم لا يسأل عن مصدر تلك المياه .. ولكن ماذا عن المباراة الحاسمة؟ تساءل الثلاثى بعيونهم.. وأخيرا قال عصام :" أكيد ح تتأجل لبكره"..
. . .
وجاء عمه "فكرى" وأخذ شريف من يده وفى اليد الأخرى إبنة عمه, وأخته, وسحبهم فى صمت سيرًا الى بيت العيلة فى "شبرا".. مشوار طويل حزين أبكم.. لم يدرى شريف حينئذ كنهه, ولكنه علل حزنه يومها بتأجيل المباراة المرتقبة.. ولم يجد مبررًا لوجوم عمه ولا الناس من حوله طول الطريق .. وتكسرت قدماهم الصغيرة مشيًا .. ودخل بيت عمته ليجد الجميع ملتفين حول التليفزيون , والمزيع ينبئهم كل فترة ببيان عاجل معلنا عن عدد من الطائرات تسقط , والطفل شريف يقفذ فرحا تيممًا بنصر عظيم ينتظرهم فور عودتهم الى المدرسة .. وأبوه ينهره ليسكت حتى يستمعوا لإذاعة لندن القادمة بصعوبة من الراديو الجروندج الألمانى العتيق , بجوار النافذة المطلة حلى حوش المنزل.. وكانت هنالك حديقة صغيرة شبه مهجورة تتوسطها جميزة وارفة, وإن غطت أغصانها وأوراقها طبقات ترابية أحالت لونها الى مزيج من الرمادى والبنى لا يشبه لون الأشجار فى شىء , ولكنها وقفت مزهوة بإنتصارها على زحف الخرسانة والطوب الأحمر الذى إجتاح فيللات وقصور شبرا التى كانت ..
. . .
وبنظرة الى الحوش , رأى شريف "سامى كوهين" يجرى ويراوغ الأول فالثانى , ثم يمرر له الكرة طويلة , فيرمح هو كالمهر ويلحق بها, ويركنها بإقتدار عن يمين الحارس محرزًا هدف الفوز .. ثم يجرى حول الملعب رافعا بيديه جانبـًا, ويجرى, ويجرى, ومن فرط السرعة يرتفع تدريجيًا, حتى بالكاد تلامس أطراف أقدامه أرض الفناء, ويداعب وجهه ريح طيار, يشعر به هو وحده, فيجفف عنه عرق العناء, ويحس بلذة عامرة تجتاحه .. ويكف عن الجرى عندما يصل الى مرماهم فيعانق عصام وسامى , ويذوب ثلاثتهم فى نشوة الإنتصار.. ويطلق الحكم بصفارة النهاية .. أفاق شريف على صوت صفارة الإنذار وأبوه يصرخ بهم للنزول الى المخبأ بأسفل العمارة حتى تنتهى الغارة..
. . .
لا يدرى إن كان مر يومان أم أسبوعان , أو ربما شهرين أو أكثر, ولكن لمـًَا عاد شريف الى المدرسة, وجد عصام ينتظره, وأخذه بالحضن وبكى.. وكان الجميع يومها يبكى.. وتذكر أنهما بحثا فى كل مكان عن سامى كوهين ليستعدوا من جديد للمباراة المرتقبة.. بحثا وبحثا, ولما لم يجداه قل عندهما إيمانهما بالنصر الأكيد..
سميحة هانم حرب
ماتت السيدة "سميحة هانم حرب".. أجل ماتت , وكانت هى الحياة بكل معاني كلمة حياة.. قـَدُمت إلينا من "لبنان" لزيارة إبنها , و سحرتنا بطلـَّـتها .. أنيقة, مبتسمة, هادئة الطبع, قليلة الكلام, تفتح علبة سجائرها المحلاة بالصندوق الجلدى, وتسحب سيجارة, ثم من جيب جانبي يطل "مبسم" عاجى, تغرس فى فوهته بقاعدة السيجارة, ثم تدور بها يمنة ويسرة, حتى تستقر تماما, وهنا تتشعل سيجارتها, ثم ترفع عينيها نحونا وتقول معلنة بلهجتها اللبنانية الواثقة :" ما بتصير تقول إنك سامع موسيئا إلا لما بتتسَمَّع لإم ِكلـتوم.." ثم ترنو منتظرة وقع كلامها علينا.. لم أرها إلا فى كامل رونقها.. فستان أنيق, عطر هادئ خلاب, شعر مصفف, أظافر مطلية, وإبتسامة مطلة من عينيها تبرق بلون اللآلئ.. تعلمت الإنجليزية فى سن الستين للتعرف مع المجتمع الذي سيحتضن معها أول حفيدة لها .. طافت بالحفيدة عند كل نهار حول الحديقة القريبة من المنزل .. تقف بها عند قطة وتقول "بساينِه" وعند زهرة, وعند شجرة, وعند فراشة, وعند عصفور أحمر حلق فوقهما.. وفى غمرة التأنق, وفى عز الحياة, سقطت الى قاع الموت الصامت الأبدى .. هكذا سقطت فجأة وبدون أدنى مقدمات ..
. . .
حل الحزن العميق و النحيب المكتوم حول أطراف وجنبات الغرفة المرشوقة بالمقاعد هنا وهناك لإستقبال المعزيين بمنزل صديقى .. وتدفق سيل الأصدقاء ثم إندثر .. وتدافعت موجة أخرى ومالبثت ان إنحسرت .. موجة فموجة والشاطئ مبلل, متآكل, متهرئ, لايكاد أن يتماسك حتى تأتيه موجة أخرى فينهار.. وكنت أنا أجمع بيداى الرمال المبللة بالدموع أعصرها وأكومها تلالا قصيرة لعلها تصمد أمام إجتياح الموجة القادمة, فتذيبها الأحزان والدموع والذكريات, وتتهاوى التلال, ويسقط الصديق كمدًا .. وأختنِق أنا فى لجة الحزن المطبـِق.. غاب صوت "إم كِلتوم" وأطلـَّت علينا ترتيلات حزينة لآيات قرآنية بصوت ملؤه الشجن, نما إلينا من خزانة الزمن الغابر ..
. . .
وفى غيبة الحياة لا يعلو صوت فوق همس الموت, أو هكذا ظننتُ, حتى رن جرس التليفون.. ومع أنه دق عشرات المرات منذ أتيت, ولكنه بدا لي مختلف رنينه فى هذه المرة بالذات.. رنين ساخر مفتعل فاضح, لست أدري .. رد صديقي, وجاء صوت المتحدث يصرخ نحوه صراخًا, سمعته أنا الجالس قبالته, بلهجته المصرية يسأل عن العنوان ليأتي ويقدم العزاء.. كنا عندئذ نعيش لحظة نادرة من لحظات السكون حيث إنصرف للتو ركب من الجمع.. وكانت إمرأتانا بالداخل, تعدان القهوة والشاى, فنظر صديقي الىَّ وقال "الزلمه مصري وعنده مزرعة, وطيب كتير.. كان بيعز الماما كتير من يوم ماراحت عنده قبل العيد اللى فات لتجيب الأوزي.. ودايما كان بيسأل عنها.." وبعد دقائق قليلة , أطل علينا "عم أنور" ببشرته السمراء المجعدة من فرط التقطيبة الدائمة فوق وجهه, بشعره الأشيب القصير, المنحول بفعل الزمن, تتبعه زوجته "الست سعاد" سيدة فى منتصف العمر مغطاة الجسد, اللهم إلا من وجه استـُبدلت نضارته وحيوته بكتل متلاصقة من الدهن تبرز وجنتيها وذقنها وأسفل الفك بلغد فخيم يهتز مع كلماتها الشحيحة فندعو لها بالصمت..
. . .
بدأ هو الكلام فقال " البقاء لله وحده.." ولمّا رأى حالة صديقى من حزن مجتاح أضاف " لأ.. لأ.. ماتعملش في نفسك كدة ده حتى حرام.." ومط شفتيه للأمام ثم سحبهما فى حركة عصبية, وتمتمت زوجته بكلمات قليلة غير مفهومة إهتز معها لغدها ثم أومأت برأسها موافقة.. هنا وإلتفت الرجل نحوي للتعارف.. "حضرتك فى ميريلاند من زمان؟ أنا بقالى ستة وعشرين سنة.. وعندنا سبعة أولاد.. يعني أولاد وبنات.. الكبيرة متجوزة و مخلـِّفـة.. من واحد يهودي.. يعني كان يهودي بس أسلـَم.. بس هو بعيد عنـَّك حمار.. صحيح طيب لكن خايب, ضيـَّع كل فلوسه فى تجارة فاشلة فى فلوريدا.. وأهى رجعت تعيش معانا بإبنها.. بس هو عايش مع أمه.. جايز مكسوف.. أهلا وسهلا.. إتشرفنا".. وساد صمت نابع من سواد الحزن الذي كلل المكان, وغربة وإستغراب بيننا وبين "عم أنور".. وغاب كل منا فى عالمه الخاص, حتى أيقظنا من غفلتنا صوته يدعو صديقي " أحسن حاجة تقوم تصلي ركعتين.. أنا كان لىَّ صديق عزيز قوي , مات بعيد عنـَّك وحزنت عليه مراته لما كانت ح تموت.. رحت وقلت لها لازم تدبحى.. يعني خروف, معزة, أى حاجة.. وفعلا سَـمَِت ودبحت ومن ساعتها راقت وبقت زى الفل.. (وإلتفت نحوي).. لامؤاخذة يا دكتور.. دي بقى حاجات ما يعرفهاش الطب بتاعكم".. ومط شفتيه وجذبهما وعقد زراعيه أمام صدره, منتظرا ردة فعل لحكمته وبراعته في التعامل مع مثل هذه المواقف..
. . .
وجيئ بالشاى فتقدم من الكوب يرشفه ثم لوى بعنقه نحوي متسائلا "حضرتك تعرف الدكتور "حامد عبد الموجود"؟ .. ما هو كان معاكم فى نفس المستشفى, بس مشـُّوه لما طلب ياخد فلوس علشان الدوا اللي كان بيعمل عنه أبحاث في المستشفى.. قالوا له بس ده ممنوع, فلمَّا صمم مشُّوه.. لكن هو إبن حلال.. وكان بيؤمِّنا في الجامع.. وفي يوم تعِب قوي فراح للدكتور, وعمل فحوصات وقالوا له ـ بعيد عنك ـ إن عنده المرض الِوحـِش ع الكبد.. وجاني حزين ومهموم.. قلت له ولا يهمك , بس إنت سَمِّي وإدبح خروف وح تشوف.. ما كدبش خبر يا دكتور.. ودبح الخروف عندي فى المزرعة.. وسبته للواد "جمال" إبني يسلخه وينضفه.. شوية ولاقيت جمال بينده, رحت أشوف لاقيته بيشاور على حاجة سوده على كبد الخروف .. مسكت السكينه وقطعتها ورميتها وقلت له ولا كلمة.. وبعد كام يوم قابلت الدكتور حامد, ولمَّا قال لي أنه كويس, أنا قلت وحِّد الله.. ومش عارف الأخوة في الجامع عرفوا منين, بس أنا لقيت الكل بيتكلم عن الحكاية بعد كده.." وزم شفتيه ومطهما فى حركته العصبية المألوفة, ثم رفع بيده كوب الشاى ورشفه بهدوء متمهلا وكأنه يلتقط أنفاسه قبل أن يستطرد فى إسترسال جديد..
. . .
إنصرفت عينى عنه وإنزلقت نحو صديقي المعصور في حزنه, الهائم في دنيا الألم , فآثرت أن أتركه لدنياه , لأنه ينبغي لنا أن نحزن كل الحزن عند فراق الأحباب, وإلا لم يتأتى لنا الغوص الكلـِّي في لجة محبتهم حين نلقاهم .. وألقيت بنظرة نحو طفلته ـ الحفيدة ـ تزحف لتلمس شال جدتها الملقى بإسترخاء فوق مسند المقعد, وتجذبه نحوها وكأنها تجذب " سميحة هانم حرب" لتعود بها من حيث ذهبت لتحملها بين ذراعيها وتعلمها من جديد .. قطة , زهرة , فراشة , شجرة , حياة ...
" ولكن تبقى الحقيقة قرحة دامية.
قدح الحياة حتى فى أسعد أحوالها لا يخلو من كدر وسم . الويل الويل للحزن والكدر.
ومن شدة أساه حمل السور العتيق المترامي فوق عاتقه .. "
نجيب محفوظ
" الحرافيش "